مشهَد أول: دخلَت امرأة أربعينية مدرسة رمل الظريف في بيروت الثانية، تبحَث عن لوائح مستقلّة عن السلطة. بصوتٍ مرتجِف. مُنخفِض وخجول تسأل: «في لوائح شيوعية انتِخبها»؟ تقِف جانباً تنتظِر الجواب. يأتيها سلباً. تحمِل نفسها وتُغادر ثمّ تعود بالصوت ذاته. تستفسِر «في لوايح مجتمع مدني... شو إسمن المرشحين»؟ بدَت ضائعة. مُرتبكة. تفتّش عن وسيلة تدلّها الى طريق الانتخاب. ثمّ تختفي.مشهد ثانٍ: يقِف رجل كبير في السنّ على باب مركز اقتراع في الدائرة نفسها. حائِر لا يعرف ماذا يفعَل. يلجأ إلى عناصر القوى الأمنية الفاصلة بينه وبين الباحة الداخلية. «فينا ننتخب هون»؟ يقول. تسأله ما الذي أتى به الى المنطقة. يتردّد في الإجابة: «أنا من صور. جيت. جابتني الماكينة الانتخابية. ماكينة أحمد الحريري. نفوسي في الجنوب. زلمة بطولو وعرضو ما بيعرف يدير ماكينة»! ما قاله الرجل يعبّر عن فوضى إدارة العملية الانتخابية. ينتظر المُعين ولا من مُعين. يثبت في مكانه. يريد انتخاب لائحة تيار المُستقبل، ولا يعرف أين ينتخِب.
مشهد ثالث: طبقات في عدد من مراكز الاقتراع، يقِف فيها الناخبون بالطوابير منذ ساعات. المعركة هنا معركتان. معركة الالتزام بالخط السياسي، ومعركة البحث عن طريق للدخول إلى أقلام الاقتراع. يصرخ عدد من الموجودين أنهم لن يُغادروا المكان. أجوبتهم حاضرة: «لو بقينا هون للصبح. بدنا نِنتخب». يتقاذَف الجميع الاتهامات. الناخبون يتّهمون المسؤولين عن أقلام الاقتراع بمنعِهم من الدخول، ما يتسبّب في بطء الحركة. والمسؤولون يشكّكون في صدقية الناخبين: «الغالبية جاهلون بكيفية الاقتراع. في ناس عم تبقى ربع ساعة هي وعم تنتخب»!
كحال الناخبين، بدت حال بيروت في يوم الانتخابات. مدينة أمرها شبيه بأمر النماذج المذكورة. عرين المستقبليين خيّب آمالهم.
5 نواب من أصل 11 للمستقبل، وواحد للاشتراكي، و4 لـ8 آذار، ومقعد لفؤاد مخزومي


الآتي صباحاً من خارج بيروت إليها ظنّ للوهلة الأولى أن نسب الاقتراع ستفوق كل التوقعات. السيارات المتزاحمة على مداخلها كانت تشي بأن اليوم الانتخابي لن ينتهي قبلَ أسبوع. كأن السيارات تتوالد. والناس أيضاً. لكن الفترة الصباحية داخل مراكز الاقتراع جاءت مغايرة. تفاوتت نسبة المقترعين بين الطوائف. أقلام «تصفّر» وأخرى «تغلي». حتى ساعات العصر، بقيت نسب الاقتراع متدنية، مقارنة بالخطاب السياسي والإعلامي والتسويقي الذي سبقها. تدنٍّ استدعى استنفاراً عاماً من قبل القوى التي خرج مسؤولوها يشحدون الصوت. تقدّمهم الحريريون. لا بل سبقوا الآخرين بأشواط. استجداء رفع عدد المقترعين بعض الشيء. ما أراده رئيس الحكومة سعد الحريري من البيارتة أكثر بكثير. لكن كان على الشيخ سعد أن يُدرك أن فترة السماح انتهت! فهو كسب في النهاية أقل من نصف نواب بيروت الثانية (5 من أصل 11 لتياره، ونائب للحزب الاشتراكي، و4 مقاعد لتحالف 8 آذار ــ التيار الوطني الحر، ومقعد لفؤاد مخزومي).
لم تكُن بيروت أمس هي نفسها المدينة التي سيطر فيها الشهيد رفيق الحريري على 19 مقعداً عام 2000. لم يفلح الابن في الحفاظ عليها كذلك. أكثر من نصف الناخبين قرّروا أن يقولوا لا للائحة «المُستقبل لبيروت» ونهج رئيسها. لم يُجدِ الأخير كل ما فعله من حملات نفعاً. بغضّ النظر عمّا حقّقته باقي اللوائح المُنافسة له في الدائرة، وما اجتذبه هو قبل ذلك من تعاطف جماهيري في أوساط الطائفة السنية، حقيقة واحدة لن يستطيع حجبها: هو أكبر الخاسرين في بيروت. خسِر نصف ما يملكه نيابياً، وحقق آخرون أكثر ممّا كانوا يتوقّعون. إن لم يكُن في النيابة، أقلّه في الحضور السياسي. كأن في بيروت من أراد أن يرد للحريري الصاع صاعين عن سنوات التجاهل والاستهتار بحياة أهلها. هذه واقعة ستكسُر ظهر الرجل حتماً. فضحت نسب التصويت في هذه الدائرة هشاشة التأييد له. الصفعة التي «أكلها» من «بيروته» الوفية أقوى من تلك التي تلقّاها في المملكة العربية السعودية. كان على سعد الحريري أن يعلم بأن الناس تنسى الحقّ أحياناً، لكنها دوماً لا تنسى الظلم والتهاون. يومَ تجاهل مطالِب الناس وتجاسر عليهم، غفل عن تبدّل المزاج العام.
اللعبة بين «المُتشدّدين» و«الإصلاحيين» في تيار المستقبل انتهت. ربِح الفريق الأول السياسة، وفاز الثاني بالشارع. شارع «كبحَ» غضبه وفرمَل انتقامه الذي رقد مؤقتاً، حتى تفجّر في يوم العرس الديمقراطي. هكذا إذن. نام رئيس تيار المستقبل على حرير واستفاق على «خسارة». خسارة ترقبها لكنه لم يتوقعها أن تكون مُرّة الى هذا الحدّ. الحديث هنا لا علاقة له بعدد النواب الذين حصدهم، بل أيضاً بنسبة المشاركة التي كان يريدها ولم يحصل عليها.