لا يزال كلام قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الايراني اللواء قاسم سليماني حول الانتخابات النيابية في لبنان يتردد صداه في الاوساط السياسية في بيروت، رغم أنه سحب من التداول. لكن الانشغال بالمراوحة الحكومية وعدم التقدم خطوة الى الامام في مفاوضات تشكيل الحكومة، أعادا كلام سليماني الى دائرة الضوء.منذ أن علق الرئيس الاميركي دونالد ترامب الاتفاق النووي مع إيران، وأطلق مجدداً مسار العقوبات الاميركية والدولية ضدها وضد حزب الله، ومنذ أن بدأت إسرائيل توجه ضربات محددة ضد أهداف إيرانية في سوريا، سادت أجواء ترقب للرد الايراني. في هذه المرحلة، قيل كلام سياسي عن محاولات اسرائيلية لاستدراج ايران وحزب الله الى الحرب، وفي المقابل، عدم رغبة الطرفين في الانجرار الى ما تريده تل ابيب، لأن طهران ترى في الحرب اليوم تدميراً لما حققته من إمساك بالمفاصل الاساسية في المنطقة. وقيل كلام سياسي ايضاً عن أن ايران تسعى الى فك العزلة الاميركية عليها من خلال الابواب الاوروبية المفتوحة عليها كي تتفادى أي طوق اقتصادي متجدد، وهي تسعى من خلال سياسة النفس الطويل الى خفض مستوى التوتر وتقليل عناصر المواجهة مع اوروبا لتقف الى جانبها في صراعها مع اميركا.
بين هذه المحاولات كلها والوضع العراقي والسوري واللبناني واليمني، وكثرة خطوط المواجهة التي تخوضها ايران، جاء كلام قاسم سليماني عن انتصار محور المقاومة في الانتخابات اللبنانية، ليثير زوبعة سياسية خمدت ظاهرياً. لكن ما جرى في العراق لاحقاً، مع الاتفاق السياسي الذي أبرمه زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر مع ائتلاف الفتح بقيادة هادي العامري (الحشد الشعبي)، برعاية إيرانية وحضور سليماني نفسه، فتح باب التساؤلات والاجتهادات.
ما قاله سليماني عن الانتخابات إنذار مباشر بأن لبنان لن يكون ساحة خلفية لواشنطن أو الرياض


في القراءة السياسية الداخلية، ان إيران المتهمة بأنها تقف وراء أحداث غزة العسكرية الأخيرة، والمتورطة في اليمن وتواجه خلافات متزايدة مع روسيا في سوريا، في ظل السعي المتكرر الى احتوائها والتخفيف من نفوذها، تمكنت من تنفيذ انقلاب واضح في العراق، فعمدت الى خلق مفاجأة سياسية بعد الانتخابات العراقية جوهرها السعي إلى استيعاب الوضع العراقي لصالحها، موجهة رسالة واضحة الى واشنطن والرياض، بأنها قادرة على جمع أضداد وحلفاء تحت راية واحدة، تمهيداً لتأليف الحكومة الجديدة في العراق.
سبق التطور العراقي رسالة إيرانية حول لبنان. فمنذ أشهر يدور الكلام عن تداخل الوضعين العراقي واللبناني ربطاً بالانتخابات النيابية التي جرت في وقت متقارب في كلا البلدين. ومع صدور النتائج العراقية وتقدم تحالف مقتدى الصدر، سارعت إيران الى احتواء الانتصار، في حين أن حلفاءها في لبنان حققوا فوزاً مريحاً. ما قاله سليماني عن الانتخابات النيابية ودوره في العراق لاحقاً، بمثابة رسالة عن سحب العراق من الايدي الاميركية والسعودية، والانذار المباشر بأن لبنان ليس ساحة غربية أو اميركية، ولن يكون ساحة خلفية لواشنطن أو الرياض.
في انتظار ردّ الفعل على ما جرى في العراق، بدأت أولى ملامح الرد الاميركي – السعودي لبنانياً على الرسالة الايرانية بالتعثر الحكومي. فإذا اعتبرت طهران أنها أمسكت بمفاصل اللعبة الداخلية من خلال المجلس النيابي الجديد، الا ان مفتاح الحكومة لا يزال في يد واشنطن والرياض. أقله هذا ما برز حتى الآن من خلال جولات المشاورات الاولية التي توقفت من دون أي مبررات، لا سيما أن الذرائع الداخلية لجهة الحصص وتوزع الحقائب لم تعد مقنعة، ما دام الاتفاق الطائفي والمذهبي بات واضحاً لجهة تقاسم الوزارات الاساسية. ولا يمكن التخفيف من أهمية التجاذب الاقليمي حول الحكومة، وإعطاء الحجج حول الحصص المسيحية أو السنية المعارضة للحريري، لأن هذه تماماً الواجهة التي يتغطّى بها الافرقاء المحليون في كل محطات تشكيل الحكومات منذ عام 2005، لتبرير غياب قرار اقليمي ودولي نافذ بالإقلاع بالصيغ الحكومية. فالرسالة الايرانية وصلت. والى الآن، ردّ المعنيون الدوليون والاقليميون بتعطيل المشاورات، وما حصل في موسكو من اتصالات جانبية بحسب بعض المطلعين، لم يضف الى الصورة سوى ملامح سوداء لا تبشر بالخير.
ولأن لبنان غير العراق، بتركيبته الطائفية والمذهبية وتوزع القوى السياسية، ولا سيما بعد نتائج الانتخابات، ولأن الذي كُلّف بتأليف الحكومة هو الرئيس سعد الحريري، فمن الصعب الخروج مبكراً من المأزق الراهن من دون دفع أثمان. فالحريري غير قادر حالياً على تخطّي السعودية وشارعه السنّي، والذهاب الى حكومة تترجم الصيغة التي تحدث عنها سليماني، والقوى المسيحية المعارضة لإيران لن تقف جانباً في معركة تحييدها وتشكيل حكومة من لون واحد. وليس من مصلحة العهد، مهما كان موقفه من إيران، المغامرة بنوع كهذا من الحكومات، في ظل الضغوط الدولية من خلال التضييق على حزب الله. في المقابل، لم تظهر واشنطن والرياض أنهما في وارد التخلي نهائياً عن لبنان. والمخرج المعروف سيكون تكراراً لشكل حكومات الاتحاد الوطني السابقة. لكن لا يبدو أن أحداً مستعجل للوصول إلى هذا الحل. والقلق من أن نكون أمام تجربة مماثلة لمرحلة تأليف حكومة الرئيس تمام سلام في نهاية عهد الرئيس ميشال سليمان، فنحتاج إلى 11 شهراً لإنتاج حكومة جديدة.