لا يراهن سمير جعجع على السعودية أكثر من السعوديين أنفسهم. المملكة تدرك أنها بلا دعم الأميركيين تصبح مهددة من داخلها، فهل يكون جعجع ملكياً أكثر من السعوديين المؤمنين بأميركا؟ البوصلة السياسية القواتية واضحة. لندع خطاب «لبنان أولاً» جانباً. رهان معراب الأول هو على الأميركيين. بعد ذلك، تتبدى حسابات وأولويات متحركة. في هذا السياق تحديداً، أثبت جعجع للسعوديين أنه حصان رابح. يخطط. يراكم. يتقدم. يتراجع. يناور. قدرة فائقة على تغليف المعارك بالسياسة. يستطيع رئيس القوات أن يقول إنه منذ خروجه من سجن وزارة الدفاع لم ينفذ انقلابات في السياسة. هو مدرك أنه لولا دم رفيق الحريري لما أمكن له أن يخرج من الحبس في اليرزة. تلقائياً، صارت السعودية هي الحاضنة الإقليمية للفريق السياسي اللبناني المناهض لسوريا، ومن بينه القوات اللبنانية.13 سنة كانت كفيلة بإجراء الكثير من الاختبارات. نجح جعجع في معظمها. هل يفرِّط به السعوديون؟ حتماً، لا.
هو المتقدم على الآخرين من حلفاء المملكة، وبينهم سعد الحريري. تصوروا، خلال مأدبة الإفطار السياسية التي أقامها القائم بالأعمال السعودي في لبنان وليد البخاري في بيت السفير في اليرزة، تعمّد البروتوكول وضع كرسي لجعجع على طاولة الضيوف الرئيسية. بالنسبة إلى السعودية، جعجع هو الحليف الذي يتقدم على كلّ الآخرين أينما حلّ، ولأجله يمكن تجاوز البروتوكول، فيخصَّص له مقعد على «طاولة الرؤساء».
هذا السلوك السعودي المتكرّر في تمييز جعجع يبيّن أنه صار في آخر سنتين تحديداً، المعتمَد الأول. الناطق الأول. المعبِّر الأول عن المملكة في لبنان، أي إنه يتقدم على معظم المسلمين والمسيحيين. الجديد أنه صار يتقدم بعد الرابع من تشرين الثاني 2017 على سعد الحريري. واقع يستفزّ قيادات مسيحية ومسلمة تتنافس على كسب ودّ المملكة وأن تتقدم على غيرها هناك. السِّر يكمن في «ثباتنا على مواقفنا، فيما الآخرون متقلبون» يقول قيادي قواتي.
يعيد مسؤول الدائرة الإعلامية في القوات شارل جبور، بدايات العلاقة التاسيسية إلى عام 1986، لكنها لم تتوطد إلا في عام 1989 مع توقيع اتفاق الطائف «يوم أمّنت بكركي الغطاء المسيحي الديني لهذا الاتفاق، فيما أمّنت القوات الغطاء المسيحي السياسي».
مع دخول جعجع إلى السجن في عام 1994، تراجعت العلاقة، وخصوصاً أن السعوديين، والتزاماً بقرار الأميركيين بعد حرب الخليج، القاضي بتلزيم ملف لبنان للرئيس الراحل حافظ الأسد، كانوا يسلِّمون بكل الصياغات السورية للملف اللبناني، بما أن لهم من يمثلهم بصورة دائمة على الطاولة اللبنانية، أي رفيق الحريري، بالشراكة الكاملة مع القيادة السورية.
بعد مقتل رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري من لبنان، خرج سمير جعجع من السجن في مطلع صيف عام 2005. 11 سنة من الاعتقال كانت كفيلة بجعل الرجل يعيد النظر بمنظومة علاقات لم توفر له الحماية في النصف الأول من التسعينيات. تدريجاً، توطدت علاقة القوات اللبنانية بالسعوديين. كل الذين تعاقبوا على السفارة السعودية في لبنان من سفراء وقائمين بالأعمال كانوا يتلقون وصية واحدة: دعم سمير جعجع وقواته. ولو أن السفارة كانت الواسطة في العلاقة في غالبية الأحيان، إلا أنها أضحت مباشرة.
وحينما يرغب جعجع في زيارة المملكة، تأتيه بعد الدعوة طائرة خاصة تقلّه، وموعد مقرر إما مع الملك أو وليّ عهده. ومن خلال علاقته مع السعودية بنى علاقة جيدة أيضاً مع الإمارات التي يطلق على وليّ عهدها محمد بن زايد لقب المرشد السياسي لوليّ العهد السعودي محمد بن سلمان.
قبل اغتيال الحريري، كان سلوك المملكة لبنانياً، مألوفاً من الجميع في الداخل والخارج. بعد الاغتيال، تبدّل تعامل السعوديين. جريمة اغتيال الحريري أصابتهم قبل غيرهم. ليس لأنه يحمل هوية سعودية، بل بما يمثل للمملكة في لبنان والمنطقة بأسرها. سقط الحريري وخرجت سوريا من لبنان. كان لا بد من أكثر من غازي كنعان. كبرت أدوار السفراء والقناصل في بيروت من جيفري فيلتمان وبرنار إيمييه إلى غيرهم من سفراء العرب، ولا سيما سفير المملكة في لبنان. مات الملك فهد بن عبد العزيز في صيف عام 2005 وحلّ محله الملك عبد الله الذي أولى عناية استثنائية لسعد الحريري وحلفائه اللبنانيين.
بعد حرب تموز 2006 وخطاب الرئيس السوري بشار الأسد في جامعة دمشق الذي تحدث فيه عن «أشباه الرجال»، بدأت مملكة الصمت خياراتها الهجومية لبنانياً. سفيرها في بيروت عبد العزيز خوجة أخذ على عاتقه فتح علاقات مع كل مكوّنات 14 آذار. في تلك اللحظة تحديداً، دشنت القوات عملياً مرحلة جديدة في علاقاتها مع السعودية، لكن بقي سعد الحريري ابن المملكة المدلَّل والممرّ الإلزامي لسمير جعجع إلى السعودية.
شكلت أحداث 7 أيار 2008 محطة مفصلية بالنسبة إلى «الاستثمار» السعودي في لبنان: دُفعت طوال ثلاث سنوات مئات ملايين الدولارات، فكانت النتيجة سيطرة حزب الله على العاصمة في وقت قياسي. إذا عدنا إلى وثائق «ويكيليكس» التي نشرتها «الأخبار» قبل سنوات، فإن سمير جعجع قام في التاسع من أيار 2008 بزيارة مسائية «مفاجئة» للسفارة الأميركية في عوكر، «طرح خلالها فكرة نشر قوات عربية لحفظ السلام في لبنان عديدها 5000 جندي»، مؤيداً الطرح السعودي في هذا الشأن. وقالت القائمة بالأعمال الأميركية ميشيل سيسون في برقيتها: «أبلغنا جعجع أن لديه بين 7000 إلى 10000 مقاتل على استعداد للتحرك»، مضيفاً: «لكننا بحاجة إلى دعمكم للحصول على الأسلحة» عبر «عملية الإمداد البرمائية». على الهامش، طلب جعجع من سيسون «دعم (رئيس الحكومة فؤاد) السنيورة طوال الطريق»، و«رفع معنويات» سعد الحريري ووليد جنبلاط.
وفيما اقترح الحريري على سيسون في الثاني عشر من أيار أن تحلّق ولو «طائرة أميركية واحدة» فوق سوريا «تهديداً» لها لا أكثر، أو تنشر أسطولها البحري السادس على طول الحدود الساحلية السورية، حيث إن قوى 14 آذار لا يمكنها أن تصمد طويلاً أمام «حزب الله»، وإلا فقد يضطرون إلى «إبرام اتفاق معه»، تورد وثيقة ثانية مؤرخة في 13 أيار، أن جعجع أبلغها بأنه التقى أشرف ريفي (المدير العام لقوى الأمن الداخلي) في 12 أيار وطلب منه المساعدة في تأمين «الذخائر» من دول أخرى. هذا الأمر أكّدته وثيقة ثالثة لـ«ويكيليكس» مؤرخة في 12 أيار، قالت فيها سيسون إن جعجع أبلغها خلال زيارة مسائية للسفارة في عوكر برفقة وزير السياحة جوزيف سركيس بضرورة وضع استراتيجية طويلة الأمد لـ«كبح» جماح «حزب الله»، مؤكداً لها أنه يعمل مع ريفي لشراء «ذخائر» للميليشيا التابعة له ولمقاتلي جنبلاط.
في 15 أيار، كتبت سيسون أن حكومة فؤاد السنيورة ألغت في 14 أيار قرارَيها الشهيرين بمصادرة شبكة الاتصالات التابعة لسلاح الإشارة الخاص بـ«حزب الله» وإقالة قائد جهاز أمن مطار بيروت الدولي العميد وفيق شقير، وأنه اتُّفِق على الذهاب إلى الدوحة في 16 أيار «لفتح حوار وطني يركز على تشكيل الحكومة وعلى قانون انتخابات جديد»، تمهيداً لإجراء الانتخابات النيابية وانتخاب رئيس للجمهورية.
بعد انتخاب ميشال سليمان في 25 أيار 2008، دخل لبنان في «ستاتيكو الدوحة»، إلى أن جرت الانتخابات النيابية في عام 2009 بإدارة مالية وسياسية سعودية، أدارها الحريري وتجاوزت كلفتها المليار دولار، ونال منها سمير جعجع حصة وازنة في مواجهة خصم السعودية الأول مسيحياً: العماد ميشال عون.
غداة انتخابات 2009، حصلت انتكاسة مرحلية في علاقة السعوديين بجعجع، عندما رفض المهادنة في لحظة «السين سين»، لكن مع إسقاط حكومة سعد الحريري بضربة استقالة ثلثها المعطل (8 آذار + الوزير الملك عدنان السيد حسين)، ومن بعدها انتقال الحريري للإقامة في الخارج، بحجة الوضع الأمني، تحول جعجع بحكم الفراغ إلى زعيم 14 آذار الفعلي، لتبدأ العلاقة المميزة بين السعودية ومعراب.
لم يتردد سمير جعجع، في بداية الأزمة السورية في المجاهرة بموقفه الداعم للمعارضة السورية، ونجح في صياغة علاقة ثابتة مع المخابرات السعودية، بدءاً من بندر بن سلطان، مروراً بمقرن بن عبد العزيز، وصولاً إلى خالد الحميدان. علاقة وفّرت الدعم السياسي ومعه مبالغ شهرية للقوات، تدفع إما على شكل مخصصات، أو هدايا، أو بدل شراء مواسم التفاح في منطقة بشري.
في عام 2014، لم ينجح جعجع في معركته الرئاسية، على الرغم من دعم السعودية له، وقد اعتذر منه السفير علي عواض العسيري يومذاك، قائلاً له: «أنت مرشحنا، إنما الظرف ليس مؤاتياً بعد لانتخابك رئيساً للجمهورية».
مع تبنّي سعد الحريري ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهوية، أدار جعجع محركاته صوب السعودية، ونجح بالشراكة مع ميشال عون في قطع الطريق على فرصة وصول زعيم المردة إلى بعبدا. شراكة قادت إلى «اتفاق معراب»، وأساسها تبنّي القوات ترشيح عون لرئاسة الجمهورية. اقتنعت المملكة باتفاق معراب، وصار ميشال عون خياراً سعودياً ــــ حريرياً للرئاسة الأولى.
ربما يريد سمير جعجع أن يلعب دور بشير الجميّل الذي صحّ القول فيه في حقبة معينة إنه «الأقوى مسيحياً»، فاستطاع أن ينسج علاقة مع السعودية التي زكّت انتخابه رئيساً للجمهورية عام 1982. لكن باطن الأمور لا يطابق ظاهرها، إذ ينفي الوزير السابق كريم بقرادوني وجود علاقة مباشرة بين بشير الجميِّل والسعوديين: «العلاقة كانت تمرّ عبر الولايات المتحدة التي سهّلت زيارته لمدينة الطائف السعودية وطلبت من المملكة تأمين تأييد النواب السنّة لانتخابه رئيساً للجمهورية، فتظاهرت السعودية وكأن بشير مرشحها، وهذا لم يكن صحيحاً بدليل إحجام النواب السنّة عن انتخابه، بمن فيهم صائب سلام الذي خرج ليترحم عليه أمام وسائل الإعلام، وينتخب أمين الجميّل في ما بعد».
شكلت أحداث 7 أيار 2008 محطة مفصلية بالنسبة إلى «الاستثمار» السعودي في لبنان


المقارنة بين بشير وجعجع ليست سهلة بالنسبة إلى بقرادوني: «لو كان بشير لا يزال على قيد الحياة، لكان نمط العلاقة مع المملكة مختلفاً، لأنه لم يكن في وارد أن يقبض الأموال من الآخرين، ولا كانت سياسة المملكة بتعاطيها مع لبنان مشابهة لما هي عليه في يومنا هذا».
المعادلة مختلفة عند جعجع. «الماروني القوي» هي كلمة السر التي أعطت ذريعة إسقاط فرنجية وأعطت شرعية مسيحية لا أحد يستطيع الأخذ والرد بشأنها. أما وأن «الجنرال» قد وصل إلى القصر، يصبح السؤال: من سيكون وريثه الماروني بعد أربع سنوات؟
لن تنتهي الحرب الرئاسية المفتوحة بين جعجع ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. «الانقلاب» على تفاهم معراب، سواء أكان مسؤولية هذا أم ذاك، يندرج في سياق هذه المواجهة التي ستستخدم فيها كل الوسائل المتاحة سياسياً.
وبمعزل عن نتيجة حرب الإلغاء السياسية الجديدة، ورغم الخط البياني التصاعدي في العلاقة السعودية ــــ القواتية، يواجه سمير جعجع المشكلة ذاتها: تسويقه ليس سهلاً في الذاكرة السنية، خصوصاً في ضوء ما أفرزته الانتخابات النيابية من خيارات سنية (ثلث التمثيل السني). هذه الخيارات لا «تهضم» جعجع رئيساً لحزب القوات، فكيف رئيساً للجمهورية؟
بدا جعجع يوم رافق كتلته النيابية إلى الاستشارات النيابية الملزمة في قصر بعبدا، كأنه يقترب خطوات جديدة باتجاه حلمه الرئاسي «متكئاً على دعم سعودي ثابت» من وجهة نظر القواتيين، لكن أحد حلفاء جعجع يقول العكس: «طريق الرئاسة تمرّ بالرياض وطهران معاً. صحيح أنه قطع الدرب على سليمان فرنجية لمصلحة ميشال عون. لكن الأيام الآتية ستظهر إذا كانت المملكة في جيبه أم لا».