في الشكل، دعوة البطريرك الماروني بشارة الراعي لعرّابي اتفاق معراب (إبراهيم كنعان وملحم رياشي) عقب سقوطه أكثر من ضرورية. لكن في المضمون، لا مصلحة للتيار الوطني الحر أو القوات اللبنانية في تعويم دور الديمان سياسياً، ولا مصلحة للراعي في اتفاق الطرفين على حسابه من جديد، خصوصا أن الحزبين لم يتعاملا يوماً مع البطريركية سوى كصندوق بريد.لم تكد تشتعل جبهة الرابية ــــ معراب، حتى وجد البطريرك الماروني بشارة الراعي الفرصة مؤاتية لإعادة إنعاش الديمان سياسياً، ولو صورياً. استدعى على عجل عرابي اتفاق معراب، عله يعيد صناعة مجد أعطي له، قبل أن يخطفه منه الزعماء الموارنة.
جلسة الوزير ملحم رياشي والنائب ابراهيم كنعان مع الراعي في مقره الصيفي استمرت خمس ساعات، ولُخّصت بـ«رسالة سلام» تلاها المسؤول الاعلامي في الصرح وليد غياض. غير أن الرسالة تُقرأ من عنوانها، ولا يمكن وضعها إلا في إطار «الواجبات». لا التيار الوطني الحر ولا القوات اللبنانية اللذان تنصلا سابقاً من اتفاق بكركي ولاحقاً من اتفاقهما الخاص، سيوليان أهمية لتمنيات الراعي، ولا رئيس الجمهورية ميشال عون أو رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع سيناسبهما أن تلعب بكركي دوراً سياسياً جدياً. بدا ذلك جلياً في الفترة التي سبقت الانتخابات الرئاسية، حيث تعمّد هؤلاء تحجيم بكركي وجعلها «آخر من يعلم». في المقابل، من مصلحة الراعي أن يبقى التيار والقوات مختلفين، فيضطران الى التظلل ببكركي، ذلك أن اتفاقهما يخفف من دوره ويزيد من عزلته السياسية، والعكس صحيح.
استخدام الصولجان للفصل بين المسيحيين يناقض ما بني عليه شعار «مجد لبنان أعطي له»(هيثم الموسوي)

لذلك، كان لا بدّ للراعي من التحرك، لا سيما أن «بكركي تلقّت اتصالات تتمنى على الراعي التدخل لتفادي أي حرب أهلية جديدة بين التيار والقوات». ولدى سؤال أوساط الصرح عن مصدر هذه «الاتصالات»، يأتي الجواب أن «معظمها من قبل مغتربين لبنانيين». يضاف الى ذلك، تمنّي الفاتيكان على الراعي، من خلال رسالة نقلها إليه السفير البابوي الجديد، «القيام بمبادرة لتهدئة وتطرية الأجواء بين الطرفين وجمهوريهما».
في المقابل، تؤكد الأوساط نفسها أن الراعي «تلقّى اتصالات من «غيارى» يطالبونه بعدم التدخل ويذكرونه بما ارتكبه بحقه قادة الأحزاب المسيحية في السنوات الأربع الماضية. لكن غبطته مصرّ على حماية المصالحة وحريص على استباق أي مشكل بين جمهورَي الطرفين ولو كان صغيراً». أتت دعوة رياشي وكنعان من هذا المنطلق، والهدف هو «وضع آلية عمل وتواصل مشترك لتنظيم العلاقة السياسية بصورة دائمة، حتى لا تكون مرهونة ببعض الاستحقاقات، على أن تشمل جميع الأفرقاء من دون استثناء»، وفق الرسالة. كذلك، تمنّى «الإسراع في تشكيل الحكومة لتفعيل عمل المؤسسات»، وجرى بحث في نقاط اتفاق معراب بالقلم والورقة، على ما تقول مصادر التيار والقوات: «قدّم كل طرف وجهة نظره إزاء ما حصل، وتناقشنا في مضمون الاتفاق ككل، وستكون هناك لقاءات أخرى».
لقاء الديمان، أمس، عادت فائدته على الأطراف الثلاثة: الراعي والتيار الوطني الحر والقوات اللبنانية. حرّك جمود البطريركية التي في عز الحرب والأزمات، لم تنأَ بنفسها عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية بهذا الشكل الفاضح. يقول المنتقدون إن بطريركية انطاكيا وسائر المشرق «تحولت في عهد غبطته الى كنيسة ريفية دورها محدود لا بل هامشي، ولا يكاد أحد يذكر وجودها». والواقع أن الراعي «الذي بدأ قويا وبلغ ذروة مجده خلال جمعه للزعماء الموارنة الأربعة، لم يلبث أن همّش نفسه بنفسه». ويرى هؤلاء أن زيارة السعودية «التي كان من المفترض أن يستغلها الراعي ليجعل منها حدثاً تاريخياً للمرة الأولى عبر إطلاق حوار إسلامي ــــ مسيحي، انتهت بإحراج كبير للبطريرك الماروني؛ أولاً، لأن رئيس حكومة لبنان كان محتجزاً في الرياض وبدت الزيارة كأنها تبرئة ذمة لولي العهد السعودي، وثانياً، لأن الراعي لم يحقق هدف زيارته، فخرج خالي الوفاض. ومذذاك، لا السعودية تقيم له اعتباراً ولا الفاتيكان أيضاً، بل بات تجاوزه سهلاً جداً: تاريخياً، أي زيارة فاتيكانية لأي دولة عربية تمرّ ببطريرك أنطاكيا وسائر المشرق. غير أنها حصلت من دون حتى إعلام بكركي بها، الأمر الذي لم يحصل يوماً في تاريخ البطاركة المتعاقبين (وفد فاتيكاني زار السعودية مؤخراً)».
وصلت الى الديمان اتصالات تتمنى على الراعي التدخل «للحؤول دون حصول حرب أهلية جديدة»


على المقلب العوني والقواتي، عاد الحزبان اليوم الى حضن بكركي لتدارك الوضع المسيحي المتأزم جراء سقوط اتفاق معراب والهدنة بين الطرفين. تارة يريدان بكركي متراساً لتراشق الاتهامات من خلالها، وتارة أخرى يريدانها وسيطاً بينهما، في دور مشابه للدور الذي لعبه الأباتي بولس نعمان خلال حرب الإلغاء بين القوات والجيش (في نهاية ثمانينيات القرن الماضي) الذي كان يقوده رئيس الجمهورية ميشال عون آنذاك. هناك من يلفت نظر الراعي اليوم الى أن «استخدام الصولجان فقط للفصل بين الزعماء المسيحيين ينقض كل ما بني عليه شعار «مجد لبنان أعطي له». فدور البطريرك مهم بأهمية لبنان، ولا يقتصر على الشق المسيحي أو على تحويل البطريركية الى صندوق بريد للمتخاصمين».