بعد أن دفعت عرسال أثماناً باهظة طوال السنوات الست الماضية، تعود الحياة اليوم إلى شوارعها وأحيائها. الحركة طبيعية، لا ينغصها قلق من بيك آب أو سيارة «مفيّمة» أو دراجة مفخخة، أو من مسلحين يسرحون ويمرحون في الأزقة، أو يقتحمون منزلاً ويخطفون أو يقتلون صاحبه أو يحاكمون مواطنين في محاكمهم «الشرعية». حتى المراكز والنقاط العسكرية خففت من اجراءاتها وتعزيزاتها، بعد أن كانت عرسال «مطوّقة» بأكثر من 5 آلاف عسكري مع إجراءات مشددة للداخلين إليها والخارجين منها.«الحمد لله اللي تحررنا» عبارة يجمع عليها العراسلة، كما عبارة «تنذكر وما تنعاد» التي يشدد عليها ابن عرسال احمد الفليطي. يقول إن «ما عاشته عرسال طوال سنوات لم تشهده أي بلدة أخرى، احتلال للحجر والبشر، خطف وقتل وتنكيل واغتيالات، أما اليوم، فنحن بألف نعمة والحمدلله، الفضل لربنا ولدماء شهداء المقاومة والجيش». لكن الفليطي يلفت إلى حاجة البلدة إلى «معركة إنماء شبيهة بمعركة التحرير من الإرهابيين».
ثمة ما يزال ينغص حياة العراسلة، بدءاً من المساحات الشاسعة المزروعة بالألغام، وصولاً إلى غياب خطة إنمائية ــــ خدماتية للبلدة. ما يقارب 100 كلم2 من مساحة عرسال عبارة عن مساحة محظورة بفعل آلاف الألغام العشوائية التي زرعها مسلحو جبهة النصرة وداعش على «خطوط التماس بينهما، وقد تمتد لمسافة 5 الى 7 كيلومترات، وفي أماكن اخرى تكون عشوائية، بحسب ما يشرح أحد ضباط الجيش. الأراضي المزروعة بالألغام تمتد في جوار الشيح وسهل الرهوة الاسفل في مساحة كبيرة بين نهاية الجرد الادنى القريب والجرد الاوسط. محاولات الجيش ثني بعض الأهالي عن التوجه الى أراضيهم في تلك المنطقة باءت أحياناً بالفشل، ما أدى الى سقوط عدد من الضحايا من العراسلة والسوريين، وعلمت «الأخبار» أن اجتماعات عقدت بين بلدية عرسال وجمعيات تعنى بنزع الألغام منذ قرابة شهرين، وأفضت إلى أن المنطقة المزروعة بالألغام تحتاج الى مسح دقيق يمتد لقرابة ثلاثة أشهر، على أن يستتبع بفترة نزعها التي تمتد لما يزيد على تسعة أشهر.
وإذ تشدد نائبة رئيس بلدية عرسال ريما كرنبي على أهمية هذا الملف، تدعو إلى إيلاء الدولة الأهمية اللازمة للمعركة الانمائية في عرسال، خصوصاً في ظل تردّي الوضع الصحي والبيئي نتيجة التلوث الحاصل من الصرف الصحي والحفر السطحية المنتشرة بالقرب من أكثر من 100 مخيم للنازحين السوريين، وتلوث المياه الجوفية وظهور حالات حمى في الآونة الأخيرة. وتكشف كرنبي عن وعود تلقّتها عرسال من جهات مانحة لإقامة محطات تكرير «إلا أنها بقيت وعوداً حتى اليوم»، تستدرك بالقول «الجهات والجمعيات المانحة كثيرة جداً ولكن مشاريعها بالكاد يحكى عنها». مجلس الانماء والاعمار والهيئة العليا للإغاثة يسهمان في تمويل تعبيد عدد من الطرق، أما معمل تدوير النفايات الذي وعدت به جمعية الهلال الاحمر القطري منذ سنتين «فما زلنا ننتظره»، تقول.
لكن ماذا عن قطاع حجر الزينة الذي كان يعتبر الدعامة الاساسية لاقتصاد عرسال ومصدر الدورة الاقتصادية في البلدة؟ يشرح محمد الحجيري، صاحب أحد مقالع الصخر في عرسال، أن قطاع حجر الزينة كان يضم 430 منشرة صخر، و180 مقلعاً ويعمل في كل منشرة أو معمل 6 عمال كحد أدنى، وكان يوفر مدخولاً يومياً لعرسال يقارب نصف مليون دولار. القطاع الذي كان بأكمله خارج الطوق الذي فرضه الجيش، تعرض من قبل مسلحي جبهة النصرة وداعش للسرقة والنهب والتخريب والحرق. بعد تحرير الجرود، عادت بعض المقالع والمناشر والمخارط للعمل، وإن بشكل جزئي، وبنسبة 20%، وسط تحديات عديدة. ويضيف الحجيري أن آليات الحفر والنقل والمولدات سرقت أو نهبت، وهي باهظة الثمن، وأصحابها يحتاجون الى «دعم من قبل الدولة لمساعدتهم في العودة إلى العمل مجدداً»، بالاضافة الى الحد من منافسة الحجر الصيني والمصري والاردني الذي دخل الاسواق اللبنانية إبان احتلال عرسال، وتسهيل الجيش نقل ديناميت تفجير الصخور بموجب تراخيص.
لا تزال آلاف الألغام تنتشر في الجرود وتحرم الأهالي من أراضيهم


من جهته، يشير محمود الفليطي إلى أن القطاع الزراعي ايضاً تعرّض لكارثة حقيقية في كل من الجرد الأدنى المروي، والجرد الأوسط، في حين لم تتجاوز نسبة الخسارة خمسة في المئة في الجرد الأعلى. في الجرد الادنى، تعرضت شبكات الري والآبار بمضخاتها وكابلات الكهرباء فيها للسرقة من قبل المسلحين، ما أدى بحسب الفليطي الى هلاك سائر الاشجار المثمرة من كرز ومشمش وتفاح، على امتداد المنطقة الممتدة من شبيب عرسال الى شبيب الفاكهة. أما في الجرد الأوسط، فقد تعرضت البساتين من قبل المسلحين للقطع لاستعمالها في التدفئة. وتشير ريما كرنبي إلى ان الدولة اللبنانية دفعت 10مليارات ليرة كتعويضات لمزارعي عرسال المتضررين، و»هذا المبلغ أقل من نصف موسم زراعي واحد في عرسال، وقد طالبنا بتعويضات اضافية، ووعدنا بالكشف قريباً على المنازل المهدمة ومقالع وكسارات ونحن ننتظر الايفاء بذلك» تقول.
عرسال تحتضن أكثر من 45 الف نازح سوري، بالاضافة الى 37 الف عرسالي، ورأت ريما كرنبي ان الوضع «يزداد سوءاً» في ظل عدم تنظيم وجود النازحين السوريين، فالمحال التجارية التي افتتحها السوريون في البلدة تفوق محال العراسلة بثلاث مرات، وتقول إن «النازح السوري لديه مساعدة شهرية وتقديمات مختلفة ولا مترتبات مالية في ذمته، وينافس العرسالي بالعمل بيومية خمسة الاف ليرة لبنانية، في الوقت الذي لا يستطيع العرسالي العمل بيومية عشرة دولارات». ومن المفترض أن يبدأ مركز الامن العام اللبناني بالعمل اليوم في مبنى بلدية عرسال السابق، بعدما جرى التواصل مع الامن العام، بهدف تسهيل تسجيل اسماء السوريين الذين ينوون العودة طوعاً الى سوريا ويحول دون ذلك انتقالهم الى اللبوة والمرور على حاجز الجيش بين عرسال واللبوة.