لاهاي | في اليوم الثالث على انطلاق جلساتها، تفرّق أحبة المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري. أتوا في طائرة الرئيس سعد الحريري، وغادروا معه فيها قبل نهاية الأسبوع الماضي. حتى الصحافيون، بقيت منهم قلة. وفي نهاية الأسبوع الجاري، تغادر الغالبية العظمى. كان مبنى المحكمة أشبه بمسرح ملّه رواده. الإجراءات الأمنية في حدها الأدنى. اختفت غابة الكاميرات المزروعة في الارض المقابلة للمحكمة، ولم تبق منها الا واحدة.
تراجع انتشار الشرطة، ولم يطلب أحد من الصحافيين الحصول على بطاقة خاصة للدخول. قاعة الاعلام هادئة. ومنصة الحضور المطلة على قاعة المحكمة من خلف زجاج عازل، لم تعد بحاجة إلى حجز مسبق. من عملوا في المحاكم الدولية الاخرى يتحدثون عن البرودة الإعلامية تجاهها بعد أشهر على انطلاقها. لكن يبدو أن محكمة الحريري ستسجل رقماً قياسياً.
فبعد ٣ أيام فقط على انطلاق المحاكمات، انفضّ هواة المحكمة من حولها. وربما سيبتعدون عنها لأشهر طويلة. والأمر هنا غير مرتبط بقلة الحماسة لمتابعة ملفات سبق أن اطلع عليها المتابعون للتحقيق الدولي، ولم يُضَف اليها شيء، ويجري تقديمها في قوالب جديدة. بل إن المحكمة سترجئ المحاكمات لأشهر. في بداية شباط، ستعقد غرفة الدرجة الاولى جلسة للنظر في طلب ضم ملف المتهم حسن مرعي الى ملف المتهمين الأربعة: مصطفى بدر الدين وسليم عياش وحسين عنيسي وأسد صبرا.
وتجزم مصادر معنية بالملف بأن المحكمة ستتخذ قراراً بضم الملفين، وبالتالي، سيطلب فريق الدفاع عن مرعي مهلة للاطلاع على الملف المكون من أكثر من ٧٥٠ ألف صفحة، وكمية هائلة من المواد الإلكترونية. وتتوقع المصادر أن توافق المحكمة على تعليق المحاكمات لمدة لا تقل عن ٤ أشهر.
وحتى نهاية الشهر الجاري، ستباشر المحكمة الاستماع الى إفادات الشهود. ولم يعرف ما إذا كانت اللائحة التي قدمها الادعاء الى رئيس غرفة الدرجة الاولى دايفيد راي تتضمن أسماءً حقيقية أو أسماءً وهمية لشهود سريين. لكن ليس في اللائحة اسم لأي من الشهود البارزين الذين كان الادعاء العام يعتبرهم مفاجأته التحقيقية، وستقتصر الافادات على المشاهدات المرتبطة بما جرى يوم ١٤ شباط ٢٠٠٥، في محيط مسرح الجريمة. ولفت الانتباه في اللائحة وجود اسم ضابط متقاعد من قوى الأمن الداخلي، سبق أن تولى قيادة الشرطة القضائية وكانت له صلة بإدارة مسرح الجريمة لوقت قصير. وأكدت مصادر معنية بالملف عدم وجود أي معلومات ذات قيمة في حوزة هذا الضابط، وأن استدعاءه يأتي ضمن إطار العمل الروتيني للمدعي العام.
ويوم أمس، اختتمت المرافعات التمهيدية بمداخلات لرئيس مكتب الدفاع فرانسوا رو ومحامي الدفاع عن بدر الدين وعنيسي تركزت حول نقطة رئيسية: لا أدلة ثابتة تدعم اتهام الادعاء. محامي الدفاع عن بدر الدين، أنطوان قرقماز، توقف عند كون الادعاء، بعد تسع سنوات من التحقيق، ورغم الموارد الضخمة التي في تصرفه، لم يظهر قدرة على الامساك بملفه كما يجب. فمكتب المدعي العام لم يتمكن من كشف منفذي الجريمة، بل اكتفى باتهام أربعة أشخاص قُدّموا كوسطاء بين مجهولين نفذوا الجريمة، ومجهولين أعطوا الامر للوسطاء بتنفيذها. ولم تتم الإشارة في القرار الاتهامي إلى الرأس المدبر للمؤامرة، ولو تلميحاً. ولفت الى أن دافع الجريمة لا يزال مجهولاً، مستنكراً ذكر الادعاء العام أن المتهمين شيعة، وإغفاله انتماءهم السياسي. ولفت الى تسريب التحقيقات، وآخرها في الصحافة الإسرائيلية قبل أيام، حيث قيل إن باحثاً إسرائيلياً حصل على وثائق من التحقيق. وأثار قرقماز مسائل متعلقة بالتحقيق، أبرزها أن الأدلة المقدمة من الادعاء أدلة ظرفية لا أدلة مادية. وعلى سبيل المثال، لا يستدعي المدعي العام أي شاهد يؤكد تورط بدرالدين في المؤامرة، فضلاً عن أنه لا يملك مضمون أي اتصالات يزعم أن المتهمين أجروها أحدهم بالآخر. وتوقف عند حديث الادعاء عن خبيرين أرجنتينيين قدما تقريراً في شأن انفجار ١٤ شباط، لافتاً الى أنهما سبق أن أعدّا تقريراً في شأن تفجير مركز إسرائيلي في الأرجنتين قبل نحو ٢٠ عاماً. ولمح قرقماز الى أن الخبيرين المذكورين قدما في بلادهما نتيجةً تطابق الاتهام المسبق لحزب الله. كذلك أعاد البحث في طبيعة جريمة اغتيال الحريري، لناحية كونها جريمة اغتيال شخصية، لا جريمة إرهابية. أما المفاجأة في مرافعة قرقماز، فكانت في كشفه أن اتهام بدر الدين لم يعد يشمل التلازم بين اغتيال الحريري واغتيال جورج حاوي وسمير قصير ومحاولتي اغتيال مروان حمادة والياس المر. ولفتت مصادر الى أن كلام قرقماز مبني على أن المدعي العام نورمان فاريل طلب سحب كل ما هو مرتبط بالجرائم الأخرى وليس له علاقة مباشرة باغتيال الحريري من التداول في المحكمة، سواء بين الادعاء والقلم أو الدفاع أو قاضي الإجراءات التمهيدية. وهذا الطلب، بحسب المصادر، يعني أن فاريل يعيد النظر في قرار سلفه دانيال بلمار اعتبار القضايا الخمس متلازمة، بسبب الأدلة الهزيلة التي جرى الاستناد اليها.
وشكا قرقماز من قلة الموارد الموضوعة بتصرف فرق الدفاع، مقارنة بما في حوزة الادعاء. وتحدث عن ازدواجية المعايير التي تمارسها السلطات اللبنانية المتعاونة مع الادعاء وغير المتعاونة مع الدفاع. فعلى سبيل المثال، لبّت هذه السلطات طلباً للجنة التحقيق خلال ٢٠ يوماً، فيما لم تلبّ الطلب ذاته عندما قدمته فرق الدفاع، رغم مضي ٨ أشهر على ذلك.
المسألة ذاتها أثارها محاميا الدفاع عن عنيسي، فنسان كورسيل لابروس وياسر حسن. ولفت الاول الى أن كلفة مجسم مسرح الجريمة (الذي كان موجوداً في قاعة المحكمة يومي الخميس والجمعة الماضيين) تفوق ربما الموارد الموضوعة في تصرف الدفاع. وتساءل عمّا إذا كان وجود هاتف عنيسي في محيط المسجد القريب من الجامعة العربية يعني أن عنيسي دخل المسجد، أو أنه تحدث مع شخص ما، وفي حال تحدث معه فما الذي دار بينهما. ولفت الى أن الادعاء يتحدث عن هاتف لا عن شخص.
أما المحامي حسن، فتساءل عن سبب عدم إنشاء محاكم دولية أخرى في لبنان والعالم العربي لشخصيات أخرى جرى اغتيالها، أو لملاحقة دول ارتكبت مجازر بحق الشعوب العربية.
وكان رو قد أثار قضية اتهام مرعي، مشيراً الى أن بلمار طلب نهاية عام ٢٠١١ مصادقة قاضي الإجراءات التمهيدية على قرار لاتهام مرعي، إلا أن هذه الموافقة لم تر النور إلا بعد ١٧ شهراً (حزيران ٢٠١٣). وصدر قرار اتهام مرعي منفصلاً عن قرار اتهام الأربعة الآخرين. واستنكر رو الطلب من محامي الدفاع عن مرعي حضور جلسات المحاكمة، من دون أن يحق لهم الكلام، رغم أن اسم من يمثلون مصالحه ذكره الادعاء العام ١٢٤ مرة في مداخلاته التمهيدية. وقال رو: «لا وجود لمحام يحفظ ماء وجه إجراءات غير صحيحة».ورد رئيس غرفة البداية القاضي راي، مؤكداً أن أي طرف لم يقدم له طلب إرجاء المحاكمة. وأشار الى أنه سيكون لمرعي الحق في تصريحات تمهيدية كباقي الأطراف.وعندما أشار المحامون الى كونهم لا يتواصلون مع المتهمين، طرح القاضي الرديف في المحكمة، وليد عاكوم، سؤالاً عمّا يفعله «أحد الذين وظفهم مكتب الدفاع لمعاونته في بيروت». ورد رو بتأكيد أن أحداً ممن يعملون في فرق الدفاع أو من يعاونهم في بيروت، لا يتواصل مع المتهمين.
على صعيد آخر، أوضح وكيل الادعاء غرايم كاميرون أنه أورد خلال عرضه الجمعة الماضي عن طريق الخطأ، رقم الهاتف الخلوي ٠٣١٥٠٣٠٠ كأحد الأرقام المنسوبة الى المتهم سليم عياش، لكن الصحيح أن الرقم هو ٠٣١٥٩٣٠٠. وأتى هذا التوضيح بعدما اتصلت قناة الجديد بالرقم الذي عرضه مكتب كاميرون، فأكد أنه يملكه منذ أكثر من عشر سنوات.
ورفع راي الجلسة الى يوم غد، لبدء الاستماع الى الشهود.