تتجاوز مجزرة صبرا وشاتيلا مجرد كونها رداً انتقامياً غرائزياً بشعاً، وترجمة لعنصرية حاقدة تنطوي عليها نفوس القتلة، بل تأتي أيضاً امتداداً لسياسة مدروسة ممتدة في التاريخ الصهيوني، منذ ما قبل إقامة الكيان الاسرائيلي عام 1948. وتتصل بالسياق الاستراتيجي الذي كان سائداً خلال الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982، وتلبية لمتطلبات وأهداف مشخَّصة في ذلك الحين.ليس صدفة أن ارتكاب المجازر بحق المدنيين رافق الحركة الصهيونية منذ بداياتها، وشكل جزءاً أساسياً من مخطط التأسيس لإقامة الكيان الاسرائيلي وتثبيته. وليس صدفة أن هذه السياسة العدوانية استمرت، حتى في مرحلة ما بعد تشكل الكيان الدولتي، ضد الشعب الفلسطيني، ومعه اللبنانيون والسوريون والأردنيون والمصريون وسائر المحيط العربي.
تكفي إطلالة سريعة على مسلسل المجازر التي ارتكبها الصهاينة في فلسطين ولبنان والمنطقة العربية، لاستكشاف حقيقة تفسر هذا التلازم الذي واكب تاريخ إسرائيل، قبل مجزرة صبرا وشاتيلا وبعدها، بكونها تحتل حيّزاً مهماً في العقيدة العسكرية الاسرائيلية، وأنها ليست فقط نتيجة جموح هذا المسؤول أو ذاك، بل خيار انتهجته إسرائيل، الى جانب تكتيكاتها العسكرية، كونها من أدوات الصراع التي تهدف من ورائها الى تحقيق أهداف محدَّدة تتصل بالمرحلة والسياقات التي تتم خلالها المجزرة.
في السياق المباشر، أتت مجزرة صبرا وشاتيلا في أعقاب اجتياح اسرائيلي لأغلب الأراضي اللبنانية، وصولاً الى العاصمة بيروت، ورداً على مقتل رئيس الجمهورية بشير الجميّل. والمنفذون كانوا جيش العدو الاسرائيلي وعملاءه في ذلك الحين. أما الضحايا فكانوا الآلاف من الفلسطينيين واللبنانيين.
لم يكن تنفيذ المجزرة وتوقيتها إلا نتيجة قرار خلص الى ضرورة تتويج الاجتياح الاسرائيلي بخطوة صادمة تهدف الى تعميق الشعور بالهزيمة وحفرها في الوجدان اللبناني والفلسطيني. وباتت هذه الخطوة أكثر من ضرورية في الحسابات الاسرائيلية، في ضوء المخاوف والمؤشرات على وجود إرادة بمواجهة المشروع الاميركي الاسرائيلي في حينه. ومن هذه الزاوية، ارتبط قرار المجزرة ايضاً بمرحلة ما بعد الاحتلال الاسرائيلي، وتمهيداً لتنفيذ المشروع الاميركي في لبنان.
من الطبيعي أن يعمد الاسرائيلي، كجزء من مخطط ضمان احتلال آمن، الى محاولة فرض وصياغة ترتيب سياسي وأمني، يقطع الطريق على أي عملية استنهاض ومقاومة. والأمر نفسه ينطبق على المشروع الاميركي الذي شكل الاجتياح الاسرائيلي خطوة تمهيدية له، عبر إقامة كيان سياسي وظيفي كجزء من استراتيجية أميركية أوسع تتجاوز في أهدافها الساحة اللبنانية. وفي مقابل كل هذه المخططات، كان خطر تبلور مقاومة ماثلاً أمام صناع القرار في تل أبيب وواشنطن. فكان اغتيال بشير الجميّل فرصة التقطها بعض القادة الاسرائيليين لتوجيه رسالة دموية الى الشعبين الفلسطيني واللبناني تسهم في تعميق إحباطه وتهدف الى تكبيل إرادته في مواجهة الاحتلال.
في المقابل، لم تسمح موازين القوى في ذلك الحين بردّ فوري من المقاومة يتناسب مع حجم المجزرة وبشاعتها، إلا أن الرد المدروس والهادف على الاجتياح الاسرائيلي، بكل إفرازاته السياسية والدموية، المتناسب مع تلك الظروف، تجسد في عمليات المقاومة التي شاركت فيها كل فصائلها التي رفضت الخضوع للاحتلال، والتسليم بمقتضيات منطق محدَّد في حسابات موازين القوى.
مع ذلك، صحيح أن إسرائيل استطاعت أن تصدم الساحتين اللبنانية والعربية باجتياحها الواسع للبنان وبهذه المجزرة المروعة وغيرها من المجازر اللاحقة، إلا أن المقاومة استطاعت أيضاً مفاجأة الاحتلال بعملياتها المتواصلة، وأيضاً بضربة قاصمة مفاجئة، بعد أقل من شهرين على المجزرة، كانت خارج حسابات الصديق والعدو، تمثلت بصدمة تدمير حزب الله لمقر الحاكم العسكري في صور (11/11/1982) عبر العملية الاستشهادية التي نفّذها الشهيد أحمد قصير وأدت الى مقتل وجرح أكثر من 100 جندي وضابط. ثم تطورت المقاومة... التي تحولت الى صمام أمان للبنان، عبر توازن ردع بات معه العدو مضطراً الى إجراء الكثير من الحسابات قبل التفكير في ارتكاب مجازر مماثلة، من دون أن يدفع أثماناً هائلة في عمقه الاستراتيجي.