منذ أكثر من أسبوع، وعشية انعقاد مؤتمر طهران، والتقارير الغربية التي تصل إلى سياسيين لبنانيين، تتحدث عن تحول روسي مرتقب حيال الوضع السوري. والمقصود ليس انقلاباً يقوم به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تجاه النظام السوري بالمعنى الجذري لإطاحته، كما كانت حال مواقف بعض الدول الغربية، بل يتمحور الكلام حول مصالح روسيا في سعيها إلى إحداث التوازن بين حلفائها، في منطقة تكثر فيها عناصر التدخل الإقليمي والدولي.ففي الاستعداد الطويل نسبياً لمعركة إدلب، في خضمّ التحذيرات الأميركية والأممية حيالها والتلويح بموقف صارم من روسيا في ظل معركة واسعة النطاق، تصاعدت المواقف عن أهمية هذا الاستحقاق بما سيفرضه من إيقاع جديد على مجريات الحرب السورية وتعزيز سيطرة النظام بالكامل على الأراضي السورية. وفيما كانت التحضيرات تتوالى، عقدت قمة ثلاثية (إيرانية - روسية - تركية) في طهران، تلتها قمة ثنائية (روسية - تركية) في سوتشي. وبين القمتين، طارت معركة إدلب. وان كانت التصريحات الرسمية لا تتحدث عن خلافات في وجهات النظر بين القوى الثلاثة حيال مصير إدلب والقوى التي تحارب فيه، إلا أن ثمة تقارير غربية تتحدث عن خيط رفيع بين ما تريده روسيا من إيران وما ترغب فيه من تمتين علاقاتها مع تركيا وعدم استفزازها بأي تطور عسكري لا يرضي أنقرة التي تتعامل مع إدلب بالتنظيمات الموجودة فيها، امتداداً لها ولرؤيتها لسوريا.
الأكيد أن إدلب، بوصفها نموذجاً حياً للديبلوماسيات والمصالح الاستراتيجية، ستترك أثراً بالغاً في العلاقات بين الدول الثلاث التي تتقاطع مصالحها في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط. لا تريد روسيا أن تقاتل من أجل مصالح إيران وحدها، وتثبيت نظام الأسد، من دون الأخذ بالاعتبار مصالحها مع تركيا، وطبعاً مع إسرائيل، ودوزنة موقف واشنطن منها.
وتريد إيران في المقابل تدخلاً روسياً واضحاً من دون التباسات إلى جانبها، ولا سيما لجهة القوة الروسية الجوية والمساعدة العسكرية الضرورية التي لعبت دوراً جوهرياً في حسم اتجاهات معارك أساسية. لأن إدلب تمثل البقعة الاستراتيجية لتثبيت نفوذ الأسد في شكل كامل، وأيضاً لتأكيد دورها الحيوي، ودور حزب الله، في سوريا، كمقرر في مجريات الحرب والسلم فيها.
وتريد تركيا التي أدت دوراً فاعلاً في الحرب السورية، أن تكون لها كلمتها النهائية في مصير سوريا والأكراد وحدودها المشتركة، والأهم مصير التنظيمات العسكرية التي وقفت إلى جانبها طوال السنوات الماضية.
كادت معركة إدلب أن تعلن الانتصار السوري الإيراني الكامل، لكن روسيا فرملت هذا الانتصار


بين ما تريده الدول الثلاث، أصبحت إدلب ساحة إقليمية ودولية، تتشابك فيها مصالح الدول الثلاث، التي لكل واحد منها أزماتها الخاصة، بمعزل عن سوريا: انهيار العملة التركية، انتظار إيران العقوبات والحصار الأميركي عليها، التحديات الروسية الاقتصادية الداخلية، والسياسية والعسكرية في أوكرانيا وتوتراتها الدائمة مع دول في الاتحاد الأوروبي. من هذا المنطلق، لم يكن لقاء سوتشي معزولاً عن أجندة روسيا تحديداً، في فرض خياراتها، وهي التي سبق أن عرفت خلافات في وجهات النظر أكثر من مرة مع إيران حيال بعض أحداث سوريا وتطوراتها وتدخلها العسكري. ثمة ترجيحات غربية بأن روسيا تفضل الخيار التركي، مع بقاء تحفظات سابقة على حالها، على الإيراني لأسباب تتعلق بإسرائيل وبواشنطن وبشبكة مصالح اقتصادية ونقاط التقاء مشتركة بين البلدين، ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل في آسيا أيضاً، تتقاطع فيها مصالحهما أكثر مما تقاطع مصالح روسيا وإيران. وثمة قراءات تتحدث عن المصالح التركية في التقرب من روسيا لأسباب تتعلق بالموقف الأميركي من أنقرة في ملفات اقتصادية وأمنية عدة، لكن الأكيد أن روسيا تريد مراعاة ظروف كثيرة في تقاربها، سواء مع إيران أو مع تركيا، والأخذ بالاعتبار أنها تريد البقاء قوة إقليمية كبيرة على المتوسط، ومناوراتها الأخيرة مثال واضح على الرغبة في استعراض القوة هذه بعيداً عن موقفها من الدولتين الإقليمتين، وتنسيقها معهما في ملفات المنطقة.
كادت إدلب أن تكون الحجر الأخير في رقعة الشطرنج لإعلان الانتصار السوري الإيراني الكامل، لكن روسيا فرملت هذا الانتصار. وستكشف المرحلة المقبلة مزيداً من الأحداث حول مجريات التحول الروسي، إن حصل تحت تأثيرات الضغوط الأميركية والتلويح بتصعيد الموقف ضد روسيا وسوريا وإيران، أو أنه جرى نتيجة حسابات التموضع الروسي التركي الجديد في ملفات مشتركة. وإذا كان إسقاط الطائرة الروسية أول من أمس قد حوّل الأنظار عن التفاهم الجديد الذي وفّر على أنقرة تورطاً عسكرياً مباشراً، إلا أن مصير هذا التفاهم وتأثيره في وضع مسلحي إدلب وتعامل دمشق معه، سيظل الحدث الأساسي، بانتظار تبلور موقف إيران الحقيقي، وليس الإعلامي من ما بعد سوتشي.