لماذا المقارنة مع رسالة العام 2014، تحديداً؟ لأنها المرة الوحيدة التي بادرت فيها إسرائيل منذ بدء الأحداث السورية، إلى تجاوز الرسائل الكلامية، وتوجيه ضربة عسكرية جوية ضد منشأة لحزب الله في منطقة جنتا على الحدود اللبنانية السورية (العمليات الأمنية لها سياقات أخرى). وهدفت من وراء ذلك إلى التأسيس لمحاولة توسيع نطاق الاستهدافات العسكرية التي كانت بدأت في الأراضي السورية قبل أكثر من سنة، باتجاه لبنان.تميزت رسالة العام 2014، بأنها رسالة تنفيذية عملانية حاولت من خلالها تل أبيب إظهار جديتها وعزمها على تنفيذ خيارها، وأوحت من خلالها أيضاً أنها على استعداد للذهاب بعيداً في خيارها العدواني. لكن إسرائيل عادت وانكفأت بعدما اكتشفت أن رد حزب الله يعني عزمه على مواصلة ردوده في مواجهة هذا النوع من الاعتداءات وأنه لن يسمح بتوسيع نطاق اعتداءاتها على الساحة السورية إلى الساحة اللبنانية، من دون أثمان تتلقاها إسرائيل.
وبالمقارنة مع رسائل نتنياهو من على منبر الأمم المتحدة، كانت رسالة العام 2014، اختباراً بالنار، ولم تمهد لها في حينه على المستويين السياسي والإعلامي، وكان يمكن أن تؤدي إلى مواجهة عسكرية واسعة. فيما رسائل نتنياهو الحالية، كلامية - سياسية - حتى الآن - تهدف إلى محاولة التحريض الداخلي والدولي على المقاومة في لبنان.
تم اعتداء جنتا، ولم تكن قد مضت مدة طويلة على بدء تدخل حزب الله في سوريا، دعماً لجيشها في معركة وجود خاضاها في مواجهة الجماعات الإرهابية التي كانت تطرق أبواب دمشق. وبالتالي، كان يفترض نظرياً أنه ليس لدى حزب الله مصلحة في الرد على إسرائيل في مواجهة هذا النوع من الرسائل تجنباً لخوض مواجهة عسكرية قاسية على جبهتين في آن. بل يمكن الجزم بأن هذا التقدير هو الذي شجع العدو الإسرائيلي على المبادرة إلى هذا «الاعتداء - الاختبار».
المفاجأة كانت أن حزب الله رد على الضربة - الرسالة، بعملية تفجير عبوة ناسفة في مزارع شبعا، على قاعدة التناسب، لكن دويها ترددت أصداؤه لدى مؤسسة القرار في تل أبيب التي فهمت الدلالة السياسية لرد حزب الله، وأن إصرارها على مواصلة هذا الخيار سيؤدي للتدحرج إلى مواجهة واسعة، فانكفأت على المستوى العملاني. وفي كل مرة كان يرى حزب الله أن العدو يتوثب لتكرار مثل هذه الخطوة كانت رسائل الأمين العام لحزب الله تبدد له الأوهام التي يستند إليها، بمواقف حازمة تتوعد بالرد القاسي والمؤلم، وخارج أي توقعات يستندون إليها.
المعطى الإضافي الذي يضفي خصوصية معينة على رد حزب الله في حينه، أنه أتى في ذروة المواجهة ضد الجماعات التكفيرية، وفي ظل رهانات وتقديرات بأن المعركة في سوريا لا أفق زمنياً لها، وأن حزب الله قد يكون استطاع المساعدة في منع سقوط النظام، ولكنه قد يكون تورط - بحسب تقديرات تل أبيب في تلك الفترة - في معركة استنزاف طويلة جداً، ستضعفه وتقوِّض قدراته على مواجهة التهديد الإسرائيلي. في المقابل، اتضح بالتجربة العملية أن قرار حزب الله بالرد في حينه، استند إلى شجاعة ورؤية دقيقة وبعيدة المدى، أسست لمعادلة ما زالت فاعلة حتى الآن، وحمت لبنان من كثير من الاعتداءات الإسرائيلية. ونتيجة ذلك، يلاحظ أن محطة اعتداء جنتا، في الرابع والعشرين من شباط 2014، والرد عليها في مزارع شبعا، تحضر دائماً على ألسنة كبار المعلقين العسكريين في إسرائيل كمحطة تأسيسية في إرساء معادلة الردع بين حزب الله وإسرائيل.
في المقابل، فإن رسالة نتنياهو من على منبر الأمم المتحدة، وفضلاً عن كونها لم تخرج حتى الآن عن إطار التهديد الكلامي، لم تحشر حزب الله، وهي «الحشرة» التي راهنت إسرائيل على تحقيقها من خلال اعتداء جنتا. بل يبدو الحزب أكثر تصميماً على مواصلة بناء وتطوير جاهزيته للدفاع عن لبنان وعن المقاومة، أياً كان الصراخ الإسرائيلي.
صحيح أنه في العام 2014 كانت الرهانات الإسرائيلية على إسقاط النظام السوري ما زالت قائمة. لكن في العام 2018، استنفدت تل أبيب رهاناتها على الجماعات التكفيرية، وبات ثبات النظام وعلى رأسه الرئيس بشار الأسد، من ثوابت المشهد الإقليمي، وهو ما يحشر إسرائيل أمام خيارات محدودة... لكن بدلاً من أن يضعف حزب الله بفعل مشاركته في معركة الدفاع عن سوريا ولبنان، تطورت قدراته باعتراف القادة الإسرائيليين على المستويين الكمي والنوعي. بل في تلك الفترة (2014) لم تكن إسرائيل تتحدث عن صواريخ دقيقة ونقطوية لدى حزب الله. وأهمية هذا المعطى «الجديد» أنه عندما نجح حزب الله في ردع إسرائيل عن مواصلة اعتداءاتها في لبنان لم يكن بالاستناد إلى قدرات صاروخية دقيقة، بالمستوى الذي يتخوف منه صانع القرار في تل أبيب.
أما الآن، فبات الحديث يدور عن قدرات صاروخية دقيقة، بحسب ما أوضح نتنياهو في كلمته في الأمم المتحدة عندما تحدث عن صواريخ بهامش خطأ عشرة أمتار، وهو ما يعزز من قدرات حزب الله العملانية والردعية والدفاعية. وهكذا تكون إسرائيل وجدت نفسها أمام مسارين متناقضين، الأول ارتفاع دوافع العدوان على خلفية فشل الرهانات السابقة؛ وفي المقابل، ارتفاع الكوابح التي تردع الحرب، بمنسوب أعلى من ارتفاع الدوافع.
على المستوى الإقليمي أيضاً، هناك هوة هائلة بين ما كانت عليه البيئة الإقليمية عام 2014 - عندما كانت تسيطر الجماعات الإرهابية والتكفيرية على معظم الأراضي السورية، إضافة إلى الوضع الذي كان سائداً في العراق - وبين ما هي عليه الآن. شهدت هذه البيئة تطوراً نوعياً كبيراً لمصلحة حزب الله ومحور المقاومة. فلم يعد ثمة من رهان معتبر على إمكانية إسقاط النظام، وبات حزب الله وبقية محور المقاومة أكثر قدرة على التفرغ لمواجهة العدوان الإسرائيلي، بعد الانتصارات في سوريا والعراق ولبنان، وصار حزب الله أكثر كفاءة وتطوراً وثقة بقدرة الانتصار على إسرائيل، والأهم أن حزب الله استكمل جاهزيته الصاروخية والعسكرية التي تُمكِّنه من تغيير معادلة الصراع في شكل جذري في حال أخطأت إسرائيل في الحسابات وبادرت إلى خطوات غير مدروسة، تؤدي إلى تعريض منشآتها الاستراتيجية في الجبهة الداخلية للاستهداف النقطوي، ويفترض أن هذه الحقيقة تحضر بقوة على طاولة مؤسسة القرار السياسي والأمني في تل أبيب، لدى دراسة أي خيارات عدوانية.