بعدما نجا رئيس حكومة لبنان سعد الحريري، من «كابوس الريتز»، يُنقل عن عمّته النائب بهيّة الحريري قولها في أحد المجالس الخاصة: «لقد تمّ تفجير الموكب، لكنّ سعداً لم يكن في السيّارة»! هل كانت الست بهيّة، حين لجأت إلى هذه الصورة المجازيّة، في حال صدَقت الرواية، تتصوّر مدى بلاغتها، وقدرتها الرمزيّة على اختصار تراجيديا آل الحريري؟ يومذاك أفلت الحريري الابن بأعجوبة من براثن خاطفه الدموي. ونجا السلم الأهلي من كارثة محتومة، وخرج لبنان سالماً، مثل الشيخ سعد، من الامتحان. لقد كُتبت لسعد الحريري حياة جديدة، بالمعنيين الشخصي والسياسي. وجد نفسه أمام بداية مختلفة كان من شأنها أن تأخذه إلى زعامة وطنيّة من نوع جديد طالما كان يحلم بها الحريري الأب، ولم يحقق إلا جزءاً واهياً منها، إنما بقوّة المال. لكن سعد الخارج من «الريتز»، كان كـ «مثل الرجل الهارب من الموت» في قصّة ابن المقفّع، يستعد لدخول فصل جديد من تلك المسرحيّة المأسويّة التي سبق أن حدّدت مصيره…رفيق الحريري، ذهب إلى السعوديّة، ذات يوم، مقايضاً أفكاره وأحلامه التقدميّة والعروبيّة، بنجاح مالي منقطع النظير، لم يلبث أن حمله إلى السياسة. جاء «منقذاً» للبلد الطالع من حرب مدمّرة، كل زعمائه الآخرين تقريباً ساهموا في لعبة الافلاس والخراب. أما هو، فجاء لـ «يبني ويثبت السلام». لكنّ مصيره، كأي بطل تراجيدي، كان قد ارتبط، ومعه سلالته، بالسعوديّة. أهدى اللبنانيين ـــ على حسابهم ـــ أوهام الازدهار والمستقبل الوردي. دهن مرهم الإعمار، بطبقاتِ سميكة، مباشرةً على الجرح المقيّح، دونما تطهير. قبل أن تأتي نهايته التراجيديّة لتعيدنا إلى الواقع. اكتشفنا الكلفة المالية الباهظة لاحلام الحريريّة، ومخلفاتها في الحياة السياسية والاقتصادية بتواطأ من الجميع طبعاً. وانتبهنا إلى أن الحرب الأهليّة لا تزال كامنة تحت الرماد. الرحيل المفجع للأب المؤسس ـــ الذي كان في السيارة لدى تفجير الموكب ـــ فتح الباب أمام الفتى الذي لم يكن يعرف من الدنيا سوى ترف البلاط، ومعشر الأمراء، ولهوهم وغيّهم. وجد نفسه بغتة على الحلبة، وكان عليه أن يتعلّم ـــ على حسابنا أيضاً ـــ فنون المبارزة والخطابة والسياسة. وللأمانة فقد تعلّم الكثير، وأحرز تقدماً ملموساً. لكن كيف تهرب من الخطيئة الأصليّة؟ بعد سنوات عاصفة، وأخطاء صاعقة، وتحوّلات حاسمة، وتحالفات خصبة بالآمال، كان الابن قد شق طريقه بشجاعة في الحياة السياسيّة… حين «استدعي» إلى السعوديّة.
سعد الحريري ذهب إلى السعوديّة، في ذلك اليوم من تشرين الثاني 2017، ليخسر كل شيء، ويخرج من السياسة. المملكة أعطت، والمملكة تأخذ. تفاصيل تلك الأسابيع الطويلة، مدهشة بالأضاليل التي فرضت علينا من عل. أسابيع صاعقة بتفاصيلها البوليسيّة، وكواليسها وأسرارها، والأدوار التي لعبتها مختلف الشخصيات السياسية والاعلامية. الآن بتنا نعرف أكثر عن قصّة سعد الحريري في الرياض العام الماضي، إنّها أشبه بسيناريو فيلم مغامرات هوليوودي، يحتوي على قفشات مضحكة، ولحظات صادمة تبعث على القشعريرة، وأسرار بقيت طويلاً من المحظورات، لا يتم تداولها إلا همساً، ولا يُشار إليها إلا لمزاً. قبل أن يأتي في النهاية من يتجرأ على «التابو». وكما في بعض أفلام التشويق، كاد السيناريو ينعطف تماماً في مسرح الجريمة، بعد عام، من خلال مشهد كوميدي تحوّل فيه الجلاد إلى بابا نويل، والرهينة المغلوبة على أمرها، إلى شاهد زور ضد نفسه.
النهاية السعيدة فتحت كوّة على الأمل. والغريب أن بعض اللبنانيين، من خنادق ومواقع مختلفة، ما زالوا يتشبثون بهذا الأمل. ولعل من الأفضل مجاراتهم، بدلاً من الرثاء الدائم لحالهم وحال البلد. لكن حياة سعد الحريري اليوم قائمة على مفارقة فظيعة. كي يلعب الرجل دوراً إيجابياً، كي يصبح هذا الزعيم المنتظر، والمنقذ المطلوب، عليه أن يبذل جهداً إضافيّاً. أن يتمرّد على قدره، أن يمسك مصيره بيده، أن يتجرأ على قطيعة صارمة مع السعودية. لكن هذا كلام خيالي، والسياسة هي فنّ الممكن. حياة سعد الحريري مرتبطة كيانيّاً بالسعودية. فإما أن تتغيّر السعوديّة، أو تراوح المسرحيّة مكانها، ونبدأ من جديد، في انتظار النهاية التراجيديّة. عند الإغريق كان اسمها لعنة سيزيف، عندنا اليوم اسمها لعنة آل الحريري.