وجّهت صحيفة «النهار»، في عددها الصادر أمس، اتهاماً مباشراً للأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله، «باستجلاب» العقوبات على لبنان. واعتبرت رئيسة تحريرها نايلة تويني أن هذا الخيار، أي استجلاب العقوبات عن سابق وعي، يندرج ضمن استراتيجية طويلة الأمد استبدلت مشروع إقامة جمهورية إسلامية «على جزء من أرضه» بمحاولة «تغيير هويته، وإضعافه، للسيطرة عليه». التشكيك بنوايا حزب الله «الطويلة الأمد» حيال شركائه في النظام اللبناني العتيد، تكتيك بات معروفاً، تلجأ إليه بعض مكونات هذا النظام الأصيلة، والمسؤولة عن غالب أزمات البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كلما برز خلاف حول توزيع المناصب أو «المغانم». ما يكشفه العنوان الرئيسي لليومية وافتتاحيتها هو الإصرار على تجاهل الطبيعة الفعلية والمعلنة للسياسة الأميركية في عهد دونالد ترامب حيال المنطقة والعالم واعتمادها العقوبات والحرب الاقتصادية، بديلاً عن التدخلات العسكرية، كأداة رئيسية لمحاولة الحفاظ على هيمنتها المتراجعة ولفرض إرادتها على بقية دول العالم بمن فيها الحلفاء. ونظراً للأولويات التي حددتها إدارة ترامب في الإقليم، وفي مقدمها «دحر نفوذ إيران وحلفائها»، ولهوية الأطراف التي ساهمت في تحديد هذه الأولويات، فإن العقوبات آتية على الأغلب مهما اعتقد من سبق وراهن على سياسة بوش الابن لإقامة «ديموقراطيات مستقرة» في الشرق الأوسط.
ريغانية بعد ريغان
السياسة الأميركية الحالية تجاه إيران وحلفائها مستوحاة من استراتيجية إدارة الرئيس الأسبق رونالد ريغان ضد الاتحاد السوفياتي، التي تكللت بتحقيق أكبر انتصار للولايات المتحدة في سياستها الخارجية عبر تسريع انهياره. أبرز أنصار هذه السياسة هم وزير الخارجية مايك بومبيو، ومساعده لشؤون الشرق الأوسط دايفيد شنكر، القادم من معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، مركز الدراسات الأهم للوبي الإسرائيلي، وجون بولتون، مستشار الأمن القومي ونجم المحافظين الجدد الغني عن التعريف. من المهم التوقف عند كيفية بلورة هذه الاستراتيجية لأنها توضح هوية الجهة التي «أوحت» بها. لم يكن سراً أن العداء لإيران كان أهم قاسم مشترك بين أقطاب فريق ترامب منذ وصوله إلى السلطة. لكن الفريق لم يكن قد أعد تصوراً واضحاً حول السبيل الأجدى لمواجهتها. معلومات سبق أن حصلت عليها «الأخبار» أظهرت أن استراتيجية احتواء ودحر إيران التي تبنتها الإدارة الأميركية استلهمت الخطوط العامة لاستراتيجية ريغان ضد السوفيات كما لخصها بيتر شوارتز، وهو صحافي وباحث أميركي، في كتابه الذي صدر عام 1994، «الانتصار: استراتيجية إدارة ريغان السرية التي سرعت سقوط الاتحاد السوفياتي».
وقد اعترف مارك دوبوفيتس، رئيس معهد الدفاع عن الديموقراطية، أنه أول من أهدى الكتاب لبومبيو عندما كان مديراً للاستخبارات المركزية فافتتن الأخير به وطلب من جميع مساعديه قراءته. والجدير ذكره أن معهد دوبوفيتس هو مجرد أداة إسرائيلية، بحسب تعبير مديرة وزارة الشؤون الاستراتيجية في إسرائيل خلال مقابلة في الفيلم الوثائقي عن اللوبي الإسرائيلي في أميركا الموجود حالياً على موقع «الأخبار». بكلام آخر، قدم الإسرائيليون لبومبيو خطوطاً عامة لاستراتيجية بديلة عن تلك التي اعتمدها أوباما ولا تكرر أخطاء تلك التي اتبعها بوش الابن عندما غزا العراق وتورط باحتلال مديد ومكلف انتهى إلى فشل واضح. رأى هؤلاء أن استلهام «قصة نجاح» كاستراتيجية ريغان سيحظى بموافقة ترامب، الذي يخشى المغامرات العسكرية الكبرى ويفضل اللجوء إلى سلاح العقوبات والضغوط الاقتصادية، وهذا ما حصل بالفعل.
عندما تتحدث الإدارة الأميركية عن «دحر» نفوذ إيران، يعني هذا الأمر أن حزب الله في رأس قائمة المستهدفين. فالمقصود هنا بالنفوذ هو أولاً القدرات العسكرية النوعية، وتحديداً الصاروخية، التي بات الحزب والحرس الثوري الإيراني، وفق المزاعم الأميركية والإسرائيلية، يمتلكونها وينتجونها في سوريا ولبنان. هذا ما يفسر تزايد رسائل التهديد الإسرائيلية السرية والعلنية في الآونة الأخيرة. لم تنجح «عمليات ما دون الحرب» الإسرائيلية، أي عشرات الغارات التي شنت على مواقع عسكرية في سوريا والتهديد والوعيد بحرب تدميرية ضد لبنان في وقف مراكمة قدرات محور المقاومة العسكرية. سوريا ولبنان تحولا برأي إسرائيل والولايات المتحدة إلى منصة هجومية، وعملية تعزيز هذه القدرات مستمرة. خيار اللجوء إلى الحرب مكلف جداً وغير مضمون النتائج، خصوصاً أن هذه الحرب قد تتوسع إلى ساحات أخرى للولايات المتحدة فيها قواعد عسكرية ومصالح. الخيار البديل هو العقوبات القصوى والضغوط السياسية والإعلامية وعمليات زعزعة استقرار واستنزاف وجميعها أدوات مستلهمة من تلك التي استخدمها ريغان. لم تعد الإمبراطورية الأميركية المتراجعة تستسهل اللجوء إلى الحروب الكبرى، لذلك أضحت تميل إلى استخدام أدوات أخرى لمحاولة تحقيق نفس الأهداف تتيحها هيمنتها على النظام المالي العالمي.

عقوبات ضد الأعداء والأصدقاء
ليس جديداً على الولايات المتحدة استخدام سلاح العقوبات ضد الخصوم، لكن الجديد هو أن إدارة ترامب تستخدمها كأداة رئيسية من أدوات سياستها الخارجية. فقد أعلن جون بولتون مثلاً في بداية هذا الشهر عن عقوبات إضافية ضد كوبا وفنزويلا وهدد نيكاراغوا بالمزيد منها. ومن المعروف أن الولايات المتحدة كانت قد فرضت عقوبات على روسيا وتهدّدها بالمزيد، وكذلك الصين. الأمر المستجد هو تحذير الولايات المتحدة للحلفاء بفرضها عقوبات عليهم في حال عدم امتثالهم لسياساتها على رغم تناقضها مع مصالحهم الوطنية. لقد نجحت التهديدات الأميركية للشركات الأوروبية العاملة في إيران بعقوبات بحمل هذه الأخيرة، كتوتال وسيمنز، على مغادرتها، بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، على رغم معارضة الحكومات الأوروبية للانسحاب وما تلاه من تهديدات. الأمر نفسه ينطبق على الموقف الأميركي من الشركات الأوروبية العاملة في قطاع الطاقة مع روسيا بحسب فيودور لوكيانوف، رئيس تحرير مجلة «روسيا والقضايا العالمية»، الذي أكد أن الكونغرس صوت على قانون فيدرالي لمعاقبتها العام الماضي وهو يعد عقوبات أخرى ضد شركات أوروبية وافقت مبدئياً على العمل في مشروع «السيل الشمالي 2» أي أنبوب الغاز العابر لبحر البلطيق المزمع بناؤه لتزويد ألمانيا بالغاز الروسي. تخيّر واشنطن هذه الشركات بين وقف التعاون مع روسيا أو فقدان قدرتها على العمل في السوق الأميركية حيث تمتلك مصالح ضخمة. فما تريده الولايات المتحدة، من أصدقائها قبل خصومها، هو الاستسلام الكامل لشروطها.
الحرب الأميركية على قوى المقاومة في المنطقة ستتصاعد وأحد أهم أدواتها الراهنة العقوبات، لذلك يستحسن على اللبنانيين تدارس السبل الأنجع لمواجهتها بدل الحديث الممجوج عن إمكانية تحييد لبنان ودفن رؤوسهم في الرمال.