لم ينبع وصفُ رئيس أركان جيش العدو للوضع الأمني على كل الجبهات بأنه «قابل للانفجار بشكل كبير جداً» من فراغ، بل عبرَّ عن تقدير المؤسسة العسكرية الإسرائيلية للمرحلة التي تمر بها إسرائيل والمنطقة. وما لخصه أيزنكوت حدَّده بتعابير أدق، قبله، رئيس شعبة الاستخبارات، «أمان»، اللواء تامير هايمن بوصف الواقع بـ«الإرباك، والتبلور والتشكَّل الذي يٌنتج إمكانية متزايدة من دينامية التصعيد».الحديث عن قابلية الانفجار ليس جديداً في التقديرات الإسرائيلية. بل ورد مراراً على ألسنة كبار القادة الإسرائيليين منذ حرب عام 2006. والواقع أن هذه القابلية كانت ترتفع أو تتراجع على وقع التطورات وتقديرات العدو الاستخبارية. ومع أنه ينبغي عدم الوقوع في فخ «الاستصحاب» بأن «ما كان... هو ما سيكون»، لا يمكن أيضاً تجاهل الرسائل الكامنة في ارتداع إسرائيل طوال السنوات الماضية، وحضورها في أي حسابات وتقديرات تتناول الأيام الآتية.
مع ذلك، بنظرة خاطفة الى الوراء يمكن استخلاص حقيقة أن العامل الأساسي الأكثر تأثيراً في وعي قادة العدو وحساباتهم كان قلقهم الشديد من المفاجآت التي يحتفظ بها حزب الله الى ساعة التلاحم الميداني. وهو ما يعود بصورة إجمالية الى مسار طويل من المفاجآت ظهرت خلال حرب عام 2006، وتوالت في السنوات التي تلت الحرب، وتمثلت برسائل الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله التي كانت تربك حسابات العدو وتغير تقديراته، وصولاً الى الصواريخ الدقيقة التي رأى نتنياهو أنها قادرة على تغيير المعادلة مع إسرائيل بشكل متطرف.
هذا المسار المتواصل من المفاجآت التي تعمد حزب الله تظهيرها بشكل مدروس وهادف، فرض على قادة العدو التواضع إزاء ما يعرفه من معلومات استخبارية عن حزب الله وقدراته وتكتيكاته. والجديد الذي يؤكد ذلك ما كشفته صحيفة هآرتس (17/12/2018)، عن أن أيزنكوت اعتبر في نقاشات داخلية أنه «يوجد دائماً لايقين إزاء أداء حزب الله في الحالات المتطرفة، ولذلك ينبغي الاستعداد للخيارات الأكثر صعوبة من التصعيد المتدرج، وصولاً الى حالة الحرب في الشمال». ويعكس هذا التقويم على لسان رأس المؤسسة العسكرية النجاح الذي حققه حزب الله في كيّ وعي قادة العدو، موسعاً مساحة «اللايقين» لديهم، ما يمنح حزب الله هامشاً أوسع من المبادرة والمناورة.
من جهة أخرى، يعكس هذا الإقرار أيضاً على لسان أيزنكوت «التواضع المعرفي» لقادة العدو (الذي لا يخفونه في جلساتهم المغلقة) في مقابل حزب الله. ولا يقدح بذلك خطابهم الاستعلائي علناً الذي لا بد منه لضرورات ردعية ومعنوية.
لماذا وصف أيزنكوت قابلية الانفجار بالكبيرة جداً؟
ينبغي تأكيد حقيقة أن منشأ وصف أيزنكوت لقابلية الانفجار بالكبيرة جداً، يختلف بين الجبهتين الشمالية والداخل الفلسطيني، بما فيه قطاع غزة. ففي الحالة الثانية، يسعى كيان العدو الى تكريس الوضع القائم، حصار للقطاع واحتلال واستيطان في الضفة. في المقابل، يسعى الشعب الفلسطيني الى منع تكريس هذا الواقع وتحرير أرضه. ومن الطبيعي أن يُنتج هذا المسار دينامية تنطوي على احتمالات تصعيد متبادل، وخاصة بعدما فشل العدو في إخماد المقاومة وردعها.
أما على الجبهة الشمالية، فتواجه إسرائيل تحدي تعاظم قدرات محور المقاومة بمستويات غير مسبوقة، وتحديداً منذ فشل الرهان على الجماعات الإرهابية في سوريا ولبنان والعراق. في المقابل، ترى تل أبيب أن استعادة الدولة السورية قدراتها وتطورها يشكلان خطراً استراتيجياً على الأمن القومي الإسرائيلي، ويساهمان في تقييد هامشها في المناورة والاعتداء. والأمر نفسه ينسحب على حزب الله في لبنان، الذي يواصل تعزيز قدراته الدفاعية والردعية. وهو ما يدفعها الى السعي الحثيث للحؤول دون تواصل هذا المسار. ولا ينبغي أن يغيب عن حساباتنا أن كيان العدو يحاول ذلك منذ ما بعد حرب عام 2006، وبمختلف الأساليب السياسية الأمنية والعسكرية والتهويلية. والنتائج الإجمالية تشهد على فشله. وهو ما يظهر في التقارير والأرقام التي توردها الأجهزة والقادة الإسرائيليون عن تطور قدرات حزب الله العسكرية، وعن الكمية «المتوحشة» لصواريخه، بحسب تعبير الرئيس السابق لقسم الأبحاث في الاستخبارات العسكرية، العميد عاموس غلبوع. والنتيجة الأهم من كل هذه الأرقام أن حزب الله نجح خلال الفترة الماضية ــــ وقبل مرحلة الصواريخ الدقيقة ــــ في تحقيق ردع غير مسبوق في تاريخ الصراع مع إسرائيل، وفي تأمين مظلة أمن للبنان، في ظروف إقليمية كان يفترض أن توفر لإسرائيل ظرفاً مثالياً للانقضاض على لبنان.
هذه الدينامية الناتجة من محاولات العدو منع لبنان وسوريا من امتلاك قدرات دفاعية وردعية، وتحديداً منذ ما بعد فشل رهانات إقليمية ودولية و«تكفيرية»، دفعت بالقيادة الإسرائيلية الى مثل هذا النوع من التقديرات «القابلية الكبيرة للانفجار»، التي تعكس من جهة أخرى أيضاً، الخيارات المطروحة ــــ دائماً ــــ على طاولة البحث والتقدير في تل أبيب. وإذا ما كان ذلك صحيحاً، فليست هي المرة الأولى التي تدرس فيها إسرائيل هذا النوع من الخيارات. لكنها كانت تخلص في كل مرة الى أن «ما كان... هو ما سيكون».