كل المارونية وكل اللبنانية تحضران في وثيقة بكركي التي ينتظر أن تصدر عقب الاجتماع الشهري للأساقفة الموارنة غداً الأربعاء في 5 شباط. كل المارونية فيها، لأنه في الشكل، ورغم الارتباط المباشر لتوقيت الوثيقة بالأزمات الراهنة، يبقى صحيحاً أن بكركي قصدت أن يكون صدورها متزامناً مع عيد مار مارون. وذلك في لفتة إلى جذورها ككنيسة رهبانية مشرقية جامعة. وكل اللبنانية في الوثيقة نفسها كذلك، لأنه، في الشكل أيضاً، حرصت بكركي ــــ على عكس ظاهرة «النداءات» التي كرّسها البطريرك صفير في زمن الوصاية السورية ــــ على أن تحمل وثيقتها الجديدة اسم «المذكرة الوطنية».
تسمية أراد منها الصرح استذكار ما كان يقوم به البطريرك الماروني الراحل الياس الحويك، بين العامين 1919 و1920، خصوصاً لجهة توجيهه «مذكرات وطنية» إلى الجهات المختلفة في الداخل والخارج. وهي «المذكرات» التي شكّلت الإطار التاريخي لتأسيس لبنان الدولة، قبل نحو قرن كامل. قرن من التاريخ الحاضر والفاعل، يبدو واضحاً أن بكركي قد بدأت تعدّ العدة للاحتفال بمئويته بعد ستة أعوام، في ظروف تريدها وتسعى إلى أن تكون أفضل وأنصع وأكثر استحقاقاً للذكرى وللاحتفال بها.
في الشكل أيضاً، يدور همس كثير في بعض الأوساط المأخوذة بالحشرية المهنية، حول هوية من صاغ الوثيقة «المذكرة». مع أن ثمة توجهاً عاماً نحو التسليم بمساهمة اثنين اساسيين: وزير سابق عضو في إحدى لجان الصرح، وكاهن باحث عمل مطوّلاً على موضوعة لبنان الكيان والميثاق والصيغة. وهي المفردات التي غالباً ما تتكرر في نص الوثيقة، في إشارة واضحة إلى مساهمة الكاهن المقصود ربما. فيما «خبطة» الإشارة إلى «حياد لبنان» تبدو الدليل المقابل على مساهمة الوزير السابق. لكن في المقابل، لا يمكن لمن يقرأ الوثيقة ــــ المذكرة إلا أن يستذكر خطاباً مكتوباً للبطريرك الراعي نفسه، ألقاه يوم 17 كانون الثاني الماضي، لمناسبة إطلاق كتاب جامع لوثائق البطريرك الحويك في بكركي. التصميم نفسه، المقاربات ذاتها، والتعابير والصياغات متقاربة حتى التطابق. وهو ما يشير إلى أن «طبخة» وتوليفة أُعدّتا بجهد وتعاون وتنسيق بين اكثر من فكر وعقل وقلم، ما أنتج «مذكرة الأربعاء».
في المضمون، تقع «المذكرة» في نحو عشر صفحات. وقد تستغرق قراءتها من قبل صاحب الغبطة أكثر من نصف ساعة عقب اجتماع أصحاب السيادة. تبدأ بمقدمة، تعيد القارئ والمؤمن والمواطن إلى البدايات. إلى بدايات الكنيسة وبدايات المارونية وبدايات الوطن. وذلك من أجل التأكيد على جسامة المسؤولية الملقاة على المعنيين. مسؤولية منبثقة من تاريخ بكركي، ومن تواصلية مواقفها عبر الزمن، بحيث لا يمكنها اليوم أن تلبث متفرجة أو عاجزة. بعد المقدمة تعرض المذكرة تحت باب «الثوابت الوطنية» ما تعتبره بكركي من مسلّمات هذا الوطن. وهي تعود إليها لا لمجرد السرد، بل لاعتبارها منارات لرؤية العبور من الأزمات الراهنة نحو الحلول وتصوّرات المعالجات. فلا اجتياز لأزمتنا الحاضرة، من دون التأكيد على ثوابت الميثاق الوطني في العيش المشترك. وهنا أيضاً يبدو واضحاً تأثير الحويك الكبير، الذي قال بثوابت خمس للميثاق: «1ــــ استقلال تام ناجز تجاه كل دول الشرق والغرب. 2ــــ لا وصاية ولا حماية ولا امتياز ولا مركز ممتازاً لأي دولة كانت. 3ــــ التعاون إلى أقصى الحدود مع الدول العربية الشقيقة. 4ــــ لا وحدة ولا اتحاد مع أي دولة كانت. 5ـــــ والصداقة مع جميع الدول التي تعترف باستقلالنا الكامل وتحترمه».
وفي ضوء تلك الثوابت تعيد بكركي التذكير بهواجسها حيال الوضع الراهن. وهي الهواجس البنيوية نفسها التي سبق لها أن أثارتها في وثائق كنسية سابقة، من المجمّع الماروني سنة 2004 إلى شرعة العمل السياسي سنة 2009. هواجس يختصرها قلق الكنيسة حيال عدم مراعاة المصلحة الوطنية العليا في كل مجال وقطاع. فالمؤسسات مغيّبة، وعملية تكوين سلطات الدولة متعثّرة وتنذر بالأسوأ. والحوار الضروري بين أبناء الوطن معطّل.
بعد عرض الثوابت تنتقل الوثيقة المذكرة إلى الحديث عن الواقع الراهن وعن التحديات التي يواجهها اللبنانيون. وذلك في محاولة لاستكشاف الأجوبة حول تساؤلات الوجهة والمصير. فتعيد التأكيد على ضرورة الإيمان بالمستقبل والثقة بغد الوطن وشعبه، على قاعدة الحوار الداخلي وتغليب المصلحة الوطنية والتأكيد على احترام الميثاق والدستور. ليعقب فصل التحديات باب الكلام عن «الأوليات»، أو الأولويات المطلوبة في مقاربة الأزمة والسعي إلى الخروج منها. فتؤكد المذكرة على كل العناوين التي يحفل بها خطاب بكركي الثابت والمستمر: استكمال بناء السلطات الوطنية، بما يعني من ضرورة قيام حكومة وطنية جامعة وفاعلة، تكون مؤهلة للتحضير لإجراء انتخابات رئاسية في موعدها. وبالتالي انتخاب رئيس جديد للجمهورية وفق أحكام الدستور، يكون قادراً على قيادة اللبنانيين في هذه المرحلة. إقرار قانون للانتخاب يؤمن التمثيل الصحيح والمقتضيات الميثاقية كاملة لجهة تحقيق المناصفة الوطنية الدقيقة، إقرار اللامركزية كمبدأ ميثاقي آخر أقره اتفاق الطائف قبل ربع قرن ولا يزال قيد التجاهل، استكمال تطبيق الطائف نفسه بما يضمن «تجديد الميثاق»، كما يكرر سيد الصرح، رفع عنوان الإصلاح كضرورة وطنية وميثاقية في الإدارة العامة وميادين الحياة الوطنية والشأن العام كافة، وصولاً إلى العنوان البارز في هذا السياق: القول بحياد لبنان عن صراعات المحاور الإقليمية، على قاعدة أن وحده الحياد يمكّن لبنان من اجتياز العواصف الإقليمية الراهنة. حياد يبدأ بتحييد لبنان عن الأزمات الحادة الناشبة راهناً، وينتهي بالحياد اللبناني الكامل، من دون التخلي عن مقتضيات الحقوق العربية المشروعة. علماً أن عرض موضوع الحياد جاء في المذكرة خالياً من أي ربط بينه وبين الأزمة السورية التي ظلت غائبة عن النص. لماذا؟ ربما لأن المذكرة ليست ظرفية، بل مبدئية، يقول مصدر روحي رفيع معني بإعدادها وصياغتها. حتى ولو أملتها اعتبارات اللحظة، لكنها تتطلع إلى أن تكون شرعة وطنية لكل لحظة. على الأقل، لتكون تمهيداً للتحضير لمئوية لبنان الدولة بعد ستة أعوام. ولتكون بالتالي مساهمة لقرن جديد آت على لبنان سيد حر مستقل متصالح مع شعبه ومحيطه ورسالته... هل تتحقق الأمنية؟
ما تكشفه دوائر بكركي هو أن المذكرة قد سلّمت قبل صدورها إلى عدد من كبار المسؤولين. على قاعدة اصول التعاطي بين الصرح وبينهم، بحيث لا يتفاجأون بنصها في الإعلام. وهو ما يدفع إلى الرهان والانتظار: فإذا تصالح هؤلاء مع أنفسهم ومع بعضهم، كان الروح ساكناً هذا النص. وإلا فعلينا انتظار روح آخر أو نص آخر أو مسؤولين آخرين!