أنتمي إلى جيل تزامَن بدء تكوّن وعيه السياسي والاجتماعي - في التسعينيات - مع تغييرات جذرية في كلّ مكان حولنا قريب وبعيد: سقوط السوفيات وانتصار أميركا في العالم، انتهاء الحرب الأهلية في لبنان، وصول جهاز الكومبيوتر إلى البيت.أوائل التسعينيات، توقّفت المعارك... بدأ الكذب. كذَب الأهل على أولادهم، وكذب الأساتذة على تلاميذهم، ومسلّحو الحيّ على أنفسهم، والدولة على شعبها وقادة الأحزاب على الجماهير، وكذَّب المستقبل الحاضر والتاريخ القريب. بثّ الإعلام أكاذيب ملوّنة غطّت تراب الحرب وغبار إعادة الإعمار، فوعدت بحياة وردية على وقع موسيقى صاخبة وحبّ مكسيكي ورياضة صباحية من أجل حياة رشيقة. دبّ نشاط غريب فجأة على شَرَف جيلنا الخارج من الحرب «الجيل الذي لم يحمل السلاح»، لكن أجسام الناهضين من الكابوس كانت منهكة وأعصابهم منهارة وأدرينالين الحرب لم يسكن بعد، وحين فعَل، حلّ محلّه اكتئاب مزمن في كل بيت. هبط «التعايش» على حقد تاريخي طري وأريد لحقبات طويلة بأحداثها وأفكارها وإنجازاتاها ونكساتها أن تُلَفّ بورقة نايلون سميكة وتوضع في العلّية. أفرغنا زاوية في غرفة الجلوس، غيّرنا الديكور، ووضعنا على الطاولة شاشة ثقيلة ولوح مفاتيح عليه أحرف وأرقام، اسمه «كومبيوتر»، ثبّتناه جيداً أمامنا و... انتظرنا الكهرباء لنشغّله!
نحنُ من سيكتب التاريخ ومن سيرسم حاضركم، قال الأميركيون للعالم منذ بداية التسعينيات بكلّ ما توافر لهم من وسائل (حروب، انقلابات، أموال، إعلام، تكنولوجيا…). شاهدنا إزالة المتاريس الترابية من الشوارع وذهبنا في رحلة مدرسية للتفرّج على بيروت بعد الحرب. لم نرَ أحداً من السكّان، لكن وزّع لنا موظفون في وسط المدينة «ستيكر» كُتب عليه «بيروت مدينة عريقة للمستقبل» بألوان زاهية. انتحر شاب في حيّنا بعدما سلّم سلاحه. الجيش السوري بقي. ذهب كثيرون من أبناء المدينة إلى دول الخليج. الجيش الإسرائيلي لا يزال يحتل الجنوب. لم يشرح لنا أحد ما الذي يجري.
كلّ شيء كان مفصلياً في تلك المرحلة، الأفكار التي بدأنا نكوّنها عن محيطنا وعن البلد والعالم، كلّ الأسئلة التي كانت مؤجّلة خلال المعارك بدأت تصطفّ في رؤوسنا متأهّبة. أسئلة كثيرة، وبعضها بدائي جداً، لكن ضروري جداً عن مجتمعنا الذي نجهل مكوّناته، عن الأديان والطوائف والأغنياء والفقراء وعن التاريخ الذي لا نحفظه في الكتب، وعن الأقاويل الطائفية والعنصرية التي نسمعها في منازلنا وعلى الشاشة وعن بيروت خلال الحرب والجنوب والإسرائيليين وفلسطين… كانت تلك أخطر مرحلة علينا، نحن الجيل الذي استفاق وعيه آنذاك في فترة تُستخدم تاريخياً لضخّ الأكاذيب وتمويه الحقائق لمصلحة المنتصرين بذريعة «فتح صفحة جديدة». ولسوء حظّنا، صودف أيضاً أن المنتصر يمتلك كلّ مفاتيح الكذب وأدواته. بدأ التزوير في كلّ الحقائق وكدنا نُعمى… إلى أن استمعنا إلى زياد الرحباني. أغانٍ وفقرات إذاعية ومسرحيات ومقالات في الصحف، صدّقنا ما قاله لنا فوراً ومن دون أي صعوبة. لم يكذب علينا في أي تفصيل، أخبرنا الأمور بفجاجة واقعها. صدّقناه لأنه تعامل معنا بمسؤولية وقدّم إلينا الكثير بكرم وحرص وحبّ. أنقذ زياد جيلنا من الكذب.
الصدق في كل شيء، تلك هي فرادة زياد ومأساته في بلد الكذب على أنواعه. صدق في الإنتاج الموسيقي بالحرص على أن تصلنا موسيقاه بنوعية صوت ممتازة دائماً، صدقٌ في الرسالة السياسية والاجتماعية الناتجة من مشاهدة الواقع بحساسية ومراقبة تطوّر الأحداث وتفاصيلها ومراكمة المعرفة. صدقٌ في الانتماء الفكري حتى الممارسة الحياتية اليومية. الصدق الذي يجرّ مسؤولية كبيرة في العمل والعمل حتى الإنهاك من التعب.
■ ■ ■

قال كثيرون إن زياد لا يكثر من الحفلات، فجال على المناطق اللبنانية بأكثر من مئة حفلة موسيقية منذ 2012، وملأ ليالي بيروت وحاناتها. قالوا إنه لم يعد لديه ما يقوله، فكتب مقالات جدّية وساخرة وتحليلية في السياسة والمجتمع والاقتصاد والحقوق المدنية، وشرح أفكاره ورؤيته للأحداث. قالوا إنه غائب عن الإعلام، فأعطى عشرات المقابلات الصحافية والتلفزيونية والإذاعية والإلكترونية في السنوات القليلة الماضية.
كنت أسمع، منذ التسعينيات، عبارة «إذا بيعمل زياد الرحباني حزب بفوت فيه»، حسناً، إليكم Kollektiv!