من المبكر الكلام عن معركة رئاسة الجمهورية. لكن المرشحين الدائمين والمحتملين يتصرفون على هذا الأساس. ما حدث في الأيام الأخيرة ومواقف القوات اللبنانية المهادنة لحزب الله، سلّط الضوء على أداء سياسي على طريق الرئاسة. عمر رئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع في السياسة يكبر عمرَي رئيس تيار المردة سليمان فرنجية ورئيس حزب التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل. بدأ جعجع المعترك السياسي فعلياً حين انقلب على الاتفاق الثلاثي عام 1986 وأصبح قائداً للقوات اللبنانية ولاعباً سياسياً أساسياً، وصولاً إلى مشاركته في الموافقة على اتفاق الطائف. دخل فرنجية السياسة قبل أن يصبح نائباً بالتعيين بعد اتفاق الطائف، ومن ثم وزيراً عام 1992. فمنذ عام 1989 بدأ دوره السياسي الفعلي، وكان أحد الذين سوّقوا اتفاق الطائف وأسهموا في إيصال الرئيس رينيه معوض رئيساً للجمهورية. صار باسيل وزيراً في أولى حكومات الرئيس فؤاد السنيورة في عهد الرئيس ميشال سليمان عام 2008، لكنه كان لاعباً أساسياً منذ عودة عون من المنفى عام 2005، إلى أن أصبح ممسكاً بكافة ملفاته وبإدارة حزبه. مع اختلاف ظروف تموضع كل منهم السياسي الداخلي والإقليمي، يخوض الثلاثة مبكراً معركة رئاسة الجمهورية، كل من موقعه ووفق خريطة طريق، تختلف باختلاف مواقعهم ورؤيتهم الإقليمية والداخلية.يتصرف القادة الموارنة الثلاثة (بعدما استبعدت الكتائب) من زاوية الترشيح الرئاسي، بعدما رسمت بكركي سقف الترشيح حين جمعت القادة الموارنة الأربعة قبل انتخاب العماد ميشال عون رئيساً، وحصرت ضرورة انتخاب رئيس من بينهم. عن خطأ أو عن صواب، حددت بكركي معايير انتخاب رئيس الجمهورية، رغم الانتقادات التي واجهتها في حصر الترشيح بزعماء الأحزاب المسيحية - المارونية، من دون غيرهم من الشخصيات المستقلة التي تتمتع بمؤهلات تخولها الوصول إلى سدة الرئاسة.
ورغم أن ظروف انتخاب عون رئيساً تتعلق بظروف وأسباب سياسية تختلف تماماً عن المسار الذي وضعته بكركي، إلا أن المرشحين الرئاسيين لا يزالون يعتمدون المبادئ التي اتُّفق عليها حينها، في الاستعداد لموسم الرئاسيات، ويتصرفون كل على طريقته وبأسلوب مختلف. علماً أن نظرية الرئيس القوي لم تعد نظرية جذابة تغري القوى السياسية الفاعلة، بعدما أتعبت التجربة الحلفاء والخصوم على السواء. لذا، بدأت بعض الشخصيات المارونية النيابية والوزارية، اقتصادية وسياسية، تضع نفسها من الآن في دائرة الضوء كمرشحين وسطيين، وتنسج علاقات على مستوى القوى الفاعلة لتقديم أوراق اعتمادها.
ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها جعجع إلى سياسة المهادنة مع حزب الله


ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها جعجع إلى سياسة المهادنة مع حزب الله. حادثة مجلس النواب بعد كلام النائب نواف الموسوي، ودخول النائبة ستريدا جعجع على الخط، هو جزء من «منظومة السقوف المنخفضة» التي يمارسها جعجع. قبل ذلك بكثير، ومع حكومة الرئيس تمام سلام، وبعدها وصولاً إلى حكومة الرئيس سعد الحريري الأولى في عهد عون، دأب جعجع في لقاءات صحافية على الإشادة بحزب الله، وخاصة لجهة مناهضته للفساد ودوره في الحكومة. في كل أحاديثه يسعى جعجع إلى استبعاد اللهجة الاستفزازية في الكلام عن الحزب، حتى لو اقتضى الأمر تغليف الكلام عن سوريا وسلاح الحزب، بأطر إقليمية بحت. ولا يطلق النار على خصومه، بل على حلفائه السابقين الموارنة، تحديداً المعارضين لحزب الله. لكن المهادنة لا تقتصر على حزب الله، وإن كانت الأبرز. فجعجع يوالي العهد بالمطلق، ويغلّب الحوار مع الرئيس نبيه بري، ساعياً باستمرار إلى تقليص الاحتكاكات مع الرئيس سعد الحريري أو التيار الوطني الحر، حتى لو كانت الأسباب موجبة ومحقة، وصولاً إلى ترجمة التهدئة مع فرنجية إلى مصالحة علنية وزيارات متبادلة. حتى الخلاف مع سوريا وزيارات وزراء إليها، لم يعد موضوعاً يمكن تحويله تفخيخاً للحكومة أو للعلاقة مع القوى السياسية الأخرى.
يسلك فرنجية طريق الرئاسيات، من موقع الصامت الأكبر. الوزير والنائب السابق، يبتعد عن خوض أي مواجهة مع أي طرف. يصفّر المشاكل، ولا يفتعل خلافاً أو يدخل في سجال سياسي حول أي مشكلة سياسية بارزة. يعتمد سياسة الصمت المطلق. هو ممّن يملكون قناعة بأن انتخابات رئاسة الجمهورية تجري وفق الظروف المناسبة، وأن أي حراك يميناً وشمالاً لا يقدم ولا يؤخر، لذا لا ضرورة لكل هذه الحركة الاستباقية. لعل تجربته كمرشح رئاسي بعد تسمية الرئيس سعد الحريري له، عززت أيضاً هذه القناعة. ورغم أن مصالحته مع القوات فتحت باب التكهنات حول تعبيده الطريق مسيحياً، بإيحاء من حليفه حزب الله، إلا أن أداءه الحقيقي وابتعاده عن سياسة الاستقطاب أو المعارضة، يبقيان أكثر تعبيراً، فيبتعد عن السجالات وعن القيام بأي عراضة داخلية أو أي استفزازات سياسية.
بخلاف المرشحين الآخرين، يقود باسيل مواجهة مفتوحة ومكشوفة، ليس مع المرشحين المفترضين، بل مع الجميع، ويتحرك 360 درجة في كل الاتجاهات وفي كل المواضيع. لم يعلن بخلاف جعجع وفرنجية ترشيحه علناً ولا مرة، لأن عون هو من رشحه بنفسه، ويمارس في الوقت نفسه كل ما يمكن أن يؤهله لأن يكون مرشحاً رئاسياً وحيداً من دون منافس. يتحرك على جميع الجبهات، في وزارة الخارجية، لكونها المعبر الأساسي للقاءات دولية وإقليمية تضعه باستمرار على خريطة اللقاءات والمؤتمرات الفاعلة، وفي كل الوزارات الأساسية التي يتحكم بها من حصته وحصة رئيس الجمهورية. في الداخل حركة لا تهدأ، وحضور دائم في لقاءات شبابية وحزبية من الشمال إلى الجنوب، يمسك بالتيار وبقواعده على كافة المستويات. كما يمسك بكل التعيينات المسيحية الإدارية والوظيفية والأمنية والقضائية وكل مفاتيح السلطة التي تجعله متحكماً باللعبة الداخلية، وصل رئيساً أو لم يصل، بعدما تعلم لعبة القوى السياسية الأخرى: كلما زاد عدد الموالين له في الإدارات، تحكّم بالإدارة أكثر، وصار من الصعب تغييرهم، ووزارة الطاقة واحد من الأمثلة. يعمل باسيل على قاعدة أنه المرشح الوريث الفعلي، لكنه أيضاً يقود هجوماً بصفته رئيس حزب مسيحي، لاعباً على وتر استقطاب العصب المسيحي، مقدماً نفسه بصورة غير المهادن حتى لأقرب حلفائه. ويتصرف في الوقت نفسه في الوضع الإقليمي على قاعدة توزيع المواقف: وزير من حصته يدافع عن سوريا، فيما يتريث هو في القيام بخطوة من النوع الذي يستجلب ضده ردّ فعل أميركي وعربي يُسهم في التخفيف من حظوظه.