في التاسع من تموز 2018، أبطل مجلس شورى الدولة قرار مجلس إدارة هيئة إدارة السير، الصادر في 4 آب 2016، الذي وافقت فيه على نتيجة مناقصة المعاينة الميكانيكية التي أجرتها إدارة المناقصات، وفاز بنتيجتها تجمع SGS.تلك المناقصة كان قد أطلقها مجلس الوزراء في 9 تشرين الأول 2014، أي منذ خمس سنوات. سنتان منها احتاج لها التحضير للمناقصة وصولاً إلى إعلان نتائجها، ثم ثلاث سنوات احتاجت لها عملية التقاضي، بعدما تقدمت مجموعة جودة - أبلوس (استُبعدت في مرحلة التقييم الفني) في 19 آب 2016 بمراجعة أمام مجلس شورى الدولة تطلب فيها وقف تنفيذ القرار وإبطاله. علماً أن مرحلة التقاضي لم تنتهِ، إذ تقدّمت هيئة إدارة السير، في 28 أيلول الماضي، بطلب إعادة محاكمة، لم يُبتّ به بعد.
قرار «الشورى» شكّل انتصاراً للمعترضين على المناقصة أو نتيجتها، ولا سيما منهم الشركات الخاسرة، واتحادات النقل البري التي تدعو إلى عودة القطاع إلى كنف الدولة. إلا أن المنتصر الأكبر كان الشركة المشغّلة حالياً، والتي لا تزال تدير مراكز المعاينة، بالرغم من انتهاء عقدها منذ نهاية 2012، مستفيدة من أولوية تسيير المرفق العام، إن كان عبر عقود رضائية أو بحكم الأمر الواقع.
رحلة المناقصة في مجلس شورى الدولة، بدأت عملياً بعد موافقته على طلب وقف التنفيذ المقدّم من شركة أبلوس في نهاية آب 2016، وبالتالي، إنهاء مفاعيل قرار مباشرة العمل الذي أعطته الهيئة للشركة الفائزة في 8 آب 2016. وهو القرار الذي عاد وأكّده، بعدما رفضت هيئة القضايا في المجلس الطلب الذي تقدمت به هيئة إدارة السير للرجوع عن القرار. انتهت حينها صلاحية قضاء العجلة وانتقلت القضية إلى أساس النزاع، أي الإبطال.
بعد نحو عام، صدر تقرير المستشار المقرر طلال بيضون (15 حزيران 2017)، الذي يعتبر فيه أن طلب الإبطال يقع في غير موقعه، طالباً، بالتالي، الرجوع عن قرار وقف التنفيذ وتثبيت نتيجة المناقصة، وهو ما أيّدته فيه مفوضة الحكومة لدى مجلس شورى الدولة فريال دلول في المطالعة التي قدّمتها في 5 تموز 2017، وإن بتعليل مختلف خلصت فيه إلى أن المرشح المستبعد لا يحق له تقديم مراجعة إبطال بعد إبرام العقد إلا أمام قاضي العقد نفسه، نازعاً بالتالي عن الشركة المدعية صفة صاحبة المصلحة.
إلا أن مجلس القضايا الذي ضم ثلاثة رؤساء غرف بينهم بيضون، وثلاثة مستشارين، إضافة إلى رئيس المجلس هنري خوري، ذهب بعكس وجهة المقرر ومفوض الحكومة، معلناً قبول الطعن المقدم من مجموعة جودة - أبلوس، وبالتالي إبطال نتيجة المناقصة (9 تموز 2018).
اعتمد مجلس القضايا في قراره على نقطتين أساسيتين:
تولى مجلس الوزراء، عبر موافقته على دفتر الشروط وإطلاقه المناقصة، القيام بأعمال هي من صلاحية هيئة إدارة السير. وبالرغم من أن المجلس له صلاحية تنفيذ القوانين ووضع مشاريع القوانين والمراسيم التنظيمية والإشراف على أعمال كل أجهزة الدولة ومؤسساتها، إلا أن هذا لا يعطيه صلاحية القيام بأعمال هذه المؤسسات، ومنها صلاحية إجراء المناقصات وإقرار نتائجها والتعاقد لتسيير المرفق العام (المادة 11من النظام العام للمؤسسات العامة). وبالتالي، فإذا أراد تغيير النصوص التنظيمية التي ترعى عمل الهيئة ومنها صلاحية إجراء المناقصات يمكنه ذلك، لكنه إلى حين تعديل أو إلغاء هذه النصوص لا يمكنه أن يحلّ محل الإدارة المعنية.
اعتبار خدمة المعاينة الميكانيكية بمثابة امتياز لمرفق عام، كما عرّفته المادة 89 من الدستور، وبالتالي وجب إصدار قانون من المجلس النيابي، بدل الاكتفاء بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء.
وبالرغم من أن هذا القرار هو بمثابة قرار نهائي، إلا أن المشرّع أعطى المجال لدرجة أخيرة من التقاضي، تتمثل في إعطاء المتضرر إمكانية طلب إعادة المحاكمة، شرط أن يكون طلبه متوافقاً مع المادة 98 من نظام مجلس الشورى الذي يحدد ثلاث حالات لا يُقبل الطلب إلا في حال توفر إحداها:
إذا كان القرار مبنياً على أوراق مزوّرة.
إذا حكم على أحد الخصوم لعدم تقديمه مستنداً حاسماً موجوداً في حوزته.
إذا لم يراع في التحقيق والحكم الأصول الجوهرية التي يفرضها القانون.
ومن النقطة الثالثة، انطلقت هيئة إدارة السير لتطلب إعادة المحاكمة، وبالتالي ردّ المراجعة الأساسية، مستندة إلى عدد من الإشكاليات التي تعتبر أنها تثبت أن الحكم لم يراع الأصول القانونية، ومنها:
لا يجوز إثارة المجلس لمسألة مخالفة القرار للمادة 89 عفواً، إذا لم تتم إثارتها من أحد الخصوم لأنه لا يعتبر من الانتظام العام. علماً أن المستدعية لم تتطرق إلى هذه النقطة عند تقديمها مراجعة الإبطال، بل جاء ذلك في لائحتها الجوابية المقدمة في 13 تشرين الأول 2016، أي خارج مهلة الشهرين المفروضة في نظام الشورى (صدر القرار المطعون فيه في 4 آب).
إن المجلس قام بتحوير الوقائع، لدى اعتباره من دون أي تعليل واضح، أن مناقصة الميكانيك تستوجب إجازة تشريعية لكونها امتياز مرفق عام، بالرغم من أنه أكد أن المرفق العام هو مرفق السير الذي يتضمن أيضاً تسجيل السيارات وتأمين السهر على تطبيق قانون السير. وبالتالي، فإن اللجوء إلى إجراء عقد BOT مع القطاع الخاص يعتبر تلزيماً لاشغال عامة وليس تلزيماً لمرفق عام، لأنه لا يجوز اعتبار المعاينة بمثابة المرفق العام، بل هي جزء من هذا المرفق الذي تديره هيئة إدارة السير.
إن القرار المطعون فيه لم يصدر عن مجلس الوزراء، وبالتالي فإن التطرق إلى موضوع مجلس الوزراء وإلى مدى تدخله في القرار المطعون فيه يقع في غير موقعه، خاصة أن المستدعية كانت قد عيّبت على القرار المطعون فيه أنه صادر عن سلطة لا تتمتع بالصلاحية (الهيئة)، معتبرة أن ذلك يعود إلى مجلس الوزراء أو لوزير الداخلية، وبالتالي كان يقتضي رد هذا السبب لا إبطال القرار المطعون فيه كون السلطة التي أصدرته صالحة لذلك.
إن موضوع دور مجلس الوزراء هو مسألة دستورية وإن كانت تؤثر على موضوع المراجعة، إلا أن اجتهاد «الشورى» يعتبر تفسيراً للدستور بل تعديلاً له وليس ذلك من صلاحياته.
وعليه، فإن الكرة عادت إلى ملعب «الشورى» المنتظر أن يصدر قراره النهائي. إذا وافق على إعادة المحاكمة وعاد عن قرار إبطال نتيجة المناقصة، فإن الشركة الفائزة ستعود إلى العمل بتأخير ثلاث سنوات. أما في حال أكد قرار الإبطال، فإن الهيئة لن تملك سوى إقفال ملف المناقصة نهائياً، تمهيداً لإعادة البحث عن حلول جديدة، إن كان عبر إعداد مناقصة جديدة، أو عبر إقرار الإجراءات القانونية التي تسمح بتولّي «إدارة السير» مباشرة مهمّة المعاينة.