ليس مفاجئاً أن يبدو رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو، حريصاً على أن تكون له بصمته الخاصة على العقيدة الأمنية لإسرائيل، بعدما أمضى نحو 13 عاماً في الحكم، حتى الآن، كانت له فيها آثاره البارزة على المستويين السياسي والاقتصادي. تجربة نتنياهو في الحكم منذ عام 2009 (وقبلها بين 1996 و1999) تشكّل مادة غنية يمكن الاستناد إليها لاستقراء عقيدته الأمنية، وخصوصاً أن العقد الماضي شهد تحولات استراتيجية إقليمياً ودولياً، كانت لها مفاعيلها على تقديرات إسرائيل وخياراتها السياسية والأمنية. علماً أن طبيعة التحولات وسرعتها فرضتا على المؤسستين الأمنية والسياسية في تل أبيب إدخال تعديلات على استراتيجية الجيش التي نشرت للمرة الأولى عام 2015 قبل تحديثها في نيسان 2018، وعلى مستوى العقيدة الأمنية.صحيفة «إسرائيل اليوم» أشارت إلى أنه «بعد تسعة أشهر من انتهاء رئيس الحكومة من كتابة العقيدة الأمنية الجديدة التي بلورها لإسرائيل وعرضها في منتديات عدة»، وصلت إليها بنود أخرى من هذه العقيدة لم تنشر بعد. وأشارت إلى أن الرئيس السابق لهيئة الأمن القومي، العميد يعقوب نغل، سينشر قريباً مقالاً «غير مصنف سري»، في الولايات المتحدة، يعرض فيه مبادئ من العقيدة التي صاغها نتنياهو. يأتي ذلك، بعدما كُشف العام الماضي عن عقيدة نتنياهو الأمنية - 2030، بعد عمل استمر نحو سنتين، وهو ما يؤكد أن الدافع الموضوعي الأساسي لبلورة هذه العقيدة مرتبط في أحد جوانبه الأساسية مباشرةً بالانتصار الذي حققه محور المقاومة وما ترتب عن ذلك من تحديات للأمن القومي الإسرائيلي، إضافة إلى ما استجد من تطورات تمثّل فرصاً استراتيجية لإسرائيل، تظهر بعض معالمها في الاندفاع الخليجي للتطبيع مع كيان العدو. وفي هذا السياق، لفتت «إسرائيل اليوم»، إلى أن أهمية صياغة العقيدة الأمنية بنحو منظم ومكتوب، تنبع من كونها أداة أساسية للاتجاهات المركزية في بناء القوة، بهدف الاستعداد للتعامل مع التهديدات الأمنية والرد في الأزمات الأمنية.
ومع أن عقيدة نتنياهو تتضمن جوانب سياسية واقتصادية مهمة، إلا أن الصحيفة الإسرائيلية اقتصرت حتى الآن على نقل جوانب أمنية منها، مشيرة إلى أن الفرضية التي تستند إليها «من ضمن أمور أخرى، أن إسرائيل لا تواجه اليوم أي تهديد وجودي». وهي حقيقة تحضر في كل المقاربات والدراسات التي تتناول البيئة الاستراتيجية لإسرائيل، وتشكل منطلقاً في بلورة الرؤى والخيارات العملانية والسياسية، استناداً الى أن خطر الجيوش النظامية العربية المحيطة بإسرائيل حُيِّد على مراحل، وبوسائل مختلفة. التحول الأساسي في هذا المجال تمثل بمعاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية التي أدت إلى تحييد أقوى جيش عربي عن دائرة الصراع، وتغيير موازين القوى الإقليمية لمصلحة إسرائيل. ثم أتت اتفاقات التسوية على الساحتين الأردنية والفلسطينية، وصولاً إلى تحييد تهديد الجيشين السوري والعراقي من خلال المخطط الذي أدارته الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة. وعادت الأصوات تعلو من جديد في تل أبيب من التهديد الكامن في إعادة بناء قدرات الجيش السوري وتطويرها، ومنع تشكل قدرات استراتيجية لمحور المقاومة على الساحة السورية، تؤدي بحسب ما عبر نتنياهو السنة الماضية، إلى تشكيل قوس شمالية تستند إلى قدرات صاروخية دقيقة. مع ذلك، هناك حقائق أخرى، تحضر بقوة لدى صناع القرار السياسي والأمني، ولها دور أساسي في بلورة تقديراتهم وخياراتهم، منها ما نقلته «إسرائيل اليوم» (15/8/2018)، عن نتنياهو بأنه «بسبب مساحتنا الجغرافية الصغيرة واكتظاظ السكان وكثرة التهديدات حولنا، دائماً كانت الحاجات الأمنية الإسرائيلية أكبر من حاجات أي دولة بحجم مماثل».
خطر الجيوش النظامية العربية المحيطة باسرائيل تم تحييده على مراحل وبوسائل مختلفة


في ضوء هذه الرؤية، يدعو نتنياهو إلى «المحافظة على هذا الوضع». وهو ما يعني أن على إسرائيل السعي إلى منع تشكل تهديد وجودي على مستوى المستقبل. وتحت هذا العنوان تخوض مواجهتها التي تأخذ أشكالاً وأساليب متعددة مع محور المقاومة في الساحة السورية، وفي مواجهة حزب الله وإيران. إلى ذلك، ينبغي التشديد على حقيقة أن إسرائيل تستبعد التهديد الوجودي، في هذه المرحلة بالذات، ولا علاقة لهذا التوصيف بالمسارات المستقبلية. وعلى ذلك، فهي لا تعتبر إيران وحلفاءها تهديداً وجودياً في المرحلة الحالية، بل تهديداً استراتيجياً، يمكن أن يتحول إلى تهديد وجودي في المستقبل، وجوهر الاستراتيجية التي تتبعها تل أبيب تستند في أحد أهدافها إلى منع تطور هذا التهديد إلى المستوى الوجودي.
يشير الكاتب، نقلاً عن نغل، إلى أن «هناك جانباً آخر في النظرية الأمنية، هو الحاجة إلى حماية الجبهة الداخلية والبنى التحتية والمؤسسات الحكومية المهمة، في ضوء تغيير عقيدة العدو». من الواضح أن هذا المبدأ يهدف إلى التركيز على مواجهة مفاعيل التهديد الصاروخي لمحور المقاومة على «العمق الاستراتيجي الإسرائيلي». وهو ما فرض على تل أبيب معادلات ردع تركت ظلالها على المنطقة الممتدة من لبنان إلى طهران. ولفت الكاتب إلى سبب جوهري للتوجه الإسرائيلي، يتمثل بتغيير عقيدة العدو، في إشارة إلى الاستراتيجية الصاروخية واللاتماثلية التي يعتمدها محور المقاومة. وفي مواجهة هذا التهديد، تنتهج إسرائيل استراتيجية متعددة المسارات، ومن ضمنها «المعركة بين الحروب»، وترد أيضاً في عقيدة نتنياهو الأمنية، ومن الواضح أن الساحة الأبرز لتنفيذ هذه الاستراتيجية هي الساحة السورية، التي تهدف إلى عرقلة مسار بناء وتطوير القدرات العسكرية والصاروخية لمحور المقاومة، إلى جانب «الاستعداد للحروب التي تتميز بدورات من العنف، كما كانت في السنوات الأولى للدولة».



«عقيدة» بن غوريون


آخر عقيدة أمنية شاملة لإسرائيل، كتبها رئيس الوزراء المؤسس للكيان الإسرائيلي، ديفيد بن غوريون، وكانت الموافقة عليها من قبل الحكومة في عام 1953. منذ ذلك الحين، لم يُوافَق على أي عقيدة أمنية أخرى، على رغم محاولات عدة جادة لتحديثها. بالممارسة العملية، أضافت إسرائيل في العقود الأخيرة مفهوم «الدفاع عن الجبهة الداخلية» إلى النظرية (العقيدة) الأمنية التي كتبها بن غوريون. وأوضحت صحيفة «إسرائيل اليوم» أنه في الصيف الماضي، كشف رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، للمسؤولين المعتمدين النقاط الرئيسية للنظرية الأمنية التي كتبها شخصياً في السنوات الأخيرة، بمساعدة طاقم الموظفين المقرب منه (السكرتاريا العسكرية ومجلس الأمن القومي)، وبالتشاور مع العديد من الخبراء، ولكن معظم محتواها لا يزال سرياً.