فاز وزير المال علي حسن خليل بعضوية حزب كارهي الدولة. بجدارة، ربح هذا المنصب، بعد المقابلة الناجحة التي أجراها معه مرسال غانم على شاشة «ام تي في» الخميس الماضي. خليل، الآتي إلى المقابلة والوزارة والنيابة ممثلاً لحركة أمل، بدا كمن يعلن انحيازاً جديداً له في السياسة. والسياسة هنا ليست بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، لجهة الانقسام حول سلاح المقاومة والتحالفات العربية والإقليمية والدولية. بل السياسة بمعناها الاقتصادي والمالي. فحركة أمل تمثّل جزءاً من نظام ما بعد الطائف، بآليات توزيع الثروة فيه وإدارة المال العام والدولة ودورها في مختلف القطاعات. من هذا المنطلق، بدا خليل، وتحت عنوان مكافحة الهدر وخفض الانفاق في الموازنة ومواجهة الفساد في الإدارات العامة، بدا كمن يعبّر عن الانتقال من ضفة إلى أخرى، او بتعبير ادق، من نظام إلى آخر. في «النظام الجديد»، الدولة هي الشر المطلق، هي الفساد، هي الهدر، هي الموظف الذي يتقاضى راتبه الشهري من المال العام ثم يحصل على بدل إضافي يفوق راتبه بأضعاف لقاء القيام بعمله. كشف وزير المال عن فضائح من هذا النوع، وعن وجود اكثر من 4000 هاتف خلوي موضوعة بتصرف موظفين ما يحرم الخزينة من واردات إضافية، وعن مئات الموظفين الذين يتقاضون رواتب أكثر من راتب رئيس الجمهورية، وعن نواب يحصلون على راتبين، وعن موظفين يحصلون على رشى من أجهزة أمنية وعن ان الدولة تدفع إيجارات غير مبررة... ببساطة، كشف علي حسن خليل عن كل ما كشفته سابقاً الصحافة ونواب ومسؤولون وحزبيون ومغرّدون... قال ما سبق أن قيل أكثر من مرة، فلاقى تصفيقاً حاراً من الجمهور في استديو برنامج «صار الوقت». حسناً، ما الخلاصة؟ نحو ساعة ونصف من الوقت قضاها وزير المال في تحميل القطاع العام مسؤولية الأزمة المالية في البلاد، وكاد يحمّله مسؤولية الازمة النقدية. الخلاصة أن النائب الجنوبي بدا كمن يعلن تطهّره من كل سياسات حركته في الدولة، منذ العام 1992. وليس المقصود هنا بـ«السياسات» ما تُتهم به حركة امل من مشاركة في نظام المحاصصة والفساد، بل في أنها جزء من نظام يرى في الدولة المحرك الاول للاقتصاد، والناظم لحركته، وصاحب النصيب الأكبر من الاستثمار في قطاعات الخدمات الأساسية للسكان. كأن علي حسن خليل قال في مقابلته إنه ترك هذه الضفة، واتجه صوب الضفة المقابلة، إلى حيث سبقه جبران باسيل، وحيث يقف تيار المستقبل وأصحاب المصارف ورياض سلامة ومحمد شقير ونقولا شماس وياسين جابر وباقي أعضاء حزب كارهي الدولة. الحزب الذي لا يزال يصرّ على الخصخصة بصفتها حلاً وحيداً، وتمكّن أخيراً من إلغاء أي دور للدولة في الاستثمار بقطاع إنتاج الطاقة الكهربائية (للمفارقة، جرى ذلك بعدما أحبط خليل آخر مشروع استثماري للدولة في مجال انتاج الطاقة - مشروع دير عمار 2).كمحلل أو «ناشط» يهوى «السبق الفضائحي»، لا كوزير مال كان. ذكّره جاد غصن (على قناة «الجديد» - نشرة أخبار يوم الجمعة) بأنه تباهى بمنع صرف الاعتمادات المخصصة للشركة الفائزة بمناقصة بناء معمل دير عمار 2، بذريعة الخلاف على الجهة التي ستدفع الضريبة على القيمة المضافة (ما أدى في النهاية إلى نقل المشروع من القطاع العام إلى القطاع الخاص). وذكّره آخرون بأنه حجب أموال النفقات السرية عن المديرية العامة لقوى الامن الداخلي، بسبب خلاف على تعيين ضابط! وخليل نفسه ذكّرنا في مقابلته بانه قرر، خلافاً للقانون، وقف عقد النفقات خارج الرواتب والاجور، إلى حين إقرار موازنة العام 2019. لكنه في «الفضائح» التي «كشفها»، بدا منزوع الصلاحية عاجزاً عن كبح الانفاق غير المبرر! فات محاوره أن يسأله عن الوفر الذي ستحققه الدولة في حال اتخذت قراراً بوقف كامل «الهدر» والانفاق «غير المجدي». هل يزيد عن واحد في المئة من إجمالي الموازنة؟ 3 في المئة؟ 5 في المئة؟ ألم يكن من واجب الوزير أن يكشف عن أثر ما وعد به على العجز؟
الهدف الحقيقي لخفض الإنفاق والعجز هو «استدامة الدين العام»


وفي مقابل شراسته ضد القطاع العام، بدا علي حسن خليل لطيفاً مهادناً عندما اتى على ذكر «الخلط الحقيقي بين السياسات النقدية والمالية والاقتصادية». وضع جانباً لغة التحريض والشراسة، ليحضر الهدوء: «يجب إعادة النظر في هذا الخلط». و«حتى بعض المنظرين ما يعتبروه غافل» (هذا هو السبب الوحيد الذي اعلن عنه)، اختصر خليل في عبارة واحدة ما ينبغي على المصارف أن تفعله للخروج من الأزمة: «يجب البحث في كيفية إدارة ديننا العام ومساهمة المصارف والمصرف المركزي فيه...». شكراً معاليك!
ما الذي يفعله وزير المالية؟ يتصرّف مع باقي أركان الدولة والشركاء الحكوميين، كمحاسبين يريدون «ضبط الدفاتر»، لا وضع سياسة مالية لها هدف اقتصادي. فالموازنة العامة ليست «حسابات دكانة». بل هي تعبّر عن سياسة مالية لها أهداف اقتصادية. والهدف الأول هو تحريك عجلة الاقتصاد، ومراكمة الثروة وتحديد كيفية توزيعها. لكن ما يُطرح اليوم ليس سوى سياسة تقشّف على حساب القطاع العام لا على حساب من راكم الثروات في سنوات «صعود الأزمة». لا أحد منهم يصارح الناس بأن هذه السياسة التقشفية ستؤدي إلى المزيد من الانكماش الاقتصادي، وخاصة انها تجري في ظل سيطرة رياض سلامة على السياسات المالية والاقتصادية، إلى جانب تلك النقدية، وحجزه لأكثر من 130 مليار دولار من الودائع في المصرف المركزي، بذريعة الحفاظ على سعر الليرة. انتظرنا وزير المالية ليل الخميس الفائت، ليخبرنا عن الهدف المراد تحقيقه من هذه الموازنة، فإذ به يكرر، كما غيره، عبارة كأنها إجابة سحرية: خفض العجز. ما الهدف من ذلك؟ الهدف سبق أن أشارت إليه «موديز» و«فيتش» وغيرهما من وكالات التصنيف والمؤسسات المالية الدولية. عندما يُحكى عن انهيار في لبنان، لا ترى تلك المؤسسات خطراً في جوع السكان او تراجع الخدمات وتدمير الاقتصاد. ما يهمّها ويهم غالبية مكونات الحكومة والطبقة الحاكمة بصورة عامة، هو الخطر المحدق بـ«استدامة الدين العام». المؤسسات الدولية ووكالات التصنيف تحدد ذلك علناً: الانهيار سيؤدي إلى عجز الدولة عن دفع كلفة دينها، وعن مراكمة هذا الدين و«تجديده». ومن أجل ذلك، ينبغي على لبنان ان يخفض عجز موازنته. ولتحقيق هدف «استدامة الدين»، لا بد من خفض الانفاق على القطاع العام، ولو أتى ذلك على حساب مئات آلاف الأسر، ولو أدى ذلك إلى انكماش إضافي في الاقتصاد، ولو تراجع وزير المال عن تصريحه اليتيم عن «إعادة هيكلة الدين العام».
قبل أسابيع، قال وزير الاقتصاد السابق رائد خوري إن الدولة ملتزمة بتسديد ديونها «إلى الأبد». كان خوري يمنح الدَّين العام صفة إلهية: إلى الأبد. خرج خوري من الحكومة، لكن بقيت «أفكاره». الجديد هو أن علي حسن خليل، لا محمد شقير، هو من حمل الراية بدلاً منه.