غابت أيقونة الطائفة المارونية. خسرنا بطريركنا. وخسر لبنان ابناً باراً به.حين تناول قربانته المقدسة ومسحة المرضى الأخيرة، عاد الأبونا والبطريرك مار نصر الله بطرس صفير إلى حضن ابيه، مودّعاً حياة عمرها من عمر لبنان الكبير الذي أحب وخدم حتى الرمق الأخير، كما أحب كنيسته و«خاصته»، عملاً بما نص عليه كتابه الإنجيلي، زاده اليومي والأحب إلى قلبه. عاد إلى كنف والديه ومن سبقه من عائلته، مغادراً أحبة وجماعة انتمت إلى خطه الكنسي والوطني، وانطبعت في ذاكرتها صورته الأبوية. ترك كنيسة خدمها أكثر من سبعين عاماً، ووطناً دافع عنه بحب وعناد قلّما شهدنا مثلهم لدى قادة روحيين وسياسيين. لم يرتضِ تسلط طرف على آخر، ولا طائفة على أخرى، آمن بلبنان بلد الطوائف والمجموعات تعيش فيه بسلام حقيقي وعيش مشترك فعلي، ولم يساوم في الحفاظ على حقوق المواطنين أياً كان انتماؤهم الطائفي والسياسي. ولد في الشهر المريمي ورحل في شهر من تعبّد لها. عاش بسلام داخلي ورحل بصفاء، رغم أن بعضاً من بني قومه آثر ألّا يتركه يذهب إلى سيده بسلام.
صاحب الضحكة الدافئة والذكاء الحاد والإخلاص لسرّ كهنوته واحترامه الاستثنائي لموقعه، كان مثالاً على اقتدار فرد في التأثير بمجريات التاريخ. فأهميته أنه كان الشخص المناسب الذي قام بمهمات هائلة في الوقت المناسب تماماً. أُعطي ألقاباً كثيرة ونعوتاً سامية وسيئة، وبقي «أبانا البطريرك».
إنه سيد أنطاكيا وسائر المشرق لخمس وعشرين سنة. مهما اختلفت الآراء في مواقفه، يشهد له حتى أعداؤه، أنه ظلّ ثابتاً عليها. لم تغرّه مظاهر، ولا خدعته إغراءات سياسية، محلية أو خارجية. وقف في وجه ضغوط كثيرة، أُهين كما سيده، هوجم بالكلام لسنوات طويلة و«عومل بقسوة فتواضع ولم يفتح فاه، كحمل سيق إلى الذبح» (أشعيا 53)، واعتُدي عليه جسدياً، وظل صامتاً، غافراً لمن اعتدوا عليه وهجّروه من كرسيه البطريركي، ولاحقوه بالأذية بطريركاً وناسكاً ومريضاً. صمد في وجه عواصف محلية وإقليمية ودولية، لكنها لم تكسره، ولم ينبت العشب على أدراج بكركي. هو البطريرك الذي لم ينحنِ لأحد ولم يتزلف لأحد، ولم يتورع عن قول كلمة الحق والوقوف حتى في وجه أصدقاء له إن أخطأوا، أو يعترف بعمل حق حتى لو عاداه كثيرون من أصدقائه.
الخجول بطبعه والجريء بطبيعته، الرصين والساخر، كان يقول لمحبيه إن هدوءه وسلامه الداخلي نابعان من «خوفه المسيحي العميق» وانتمائه إلى الإنجيل، لأنه فهم الكتاب المقدس بفطرية، وهو الذي تربى عليه طفلاً في عائلة تقية، وتعمق بسرّه كاهناً.
من الجيل الكهنوتي الذي لم يُعرف عنه إثم أو خطيئة، أو سُجِّلت عليه سوابق، أخلاقياً وكنسياً. الطوباوي الذي شهد تقديس رموز الطائفة المارونية من مار شربل، إلى رفقا والحرديني ويعقوب الكبوشي والأب أسطفان نعمة وأشرف على فتح دعاوى قديسين أبرزهم البطريرك أسطفان الدويهي. خمسة عشرون عاماً قضاها في خدمة الكنيسة بطريركا، وقبلها 36 سنة كاهناً ومطراناً، من دون أن تعرف عنه بهرجة في ملبس أو مأكل. في بكركي أو الديمان، صيفاً وشتاءً، هو نفسه بلباسه البسيط وببسمته الوديعة وحركات يديه الطريتين، ووجهه السموح والحاد في آن معاً. عباراته على مدى 25 عاماً صارت مرجعاً، تحفظ له في الدين والسياسة وأجوبته اللاذعة باتت مضرب مثل، كحنكته في إدارة الحوارات واطلاعه الدقيق على أي ملف سياسي أو اقتصادي طُرح على طاولته، وذاكرته التي لا تنضب. أصدقاؤه المقربون معروفون، وثق بقلة وفتح قلبه لكل من دقّ بابه. في ظروف مختلفة، أحبّ من كان مخلصاً ودافع عنه وقرّبه إلى قلبه، وشهد على انقلاب محيطين به أكليروساً وعلمانيين. لا يطلب شيئاً لنفسه، منصرفاً إلى الصلاة والقراءة والترجمة والمشي، في بكركي والديمان، معتمراً قبعته البسيطة، متكئاً على عصاه يمشي في دروب قنوبين العتيقة ممتلئاً من قداستها وسحر كنيستها. المثقف والقارئ النهم، كتباً وصحفاً ودراسات، المحلل السياسي والعالم الكهنوتي، أحد أبرز رجال الدين بإتقانه للغة العربية، كتب عظاته بلغة فصيحة، فصارت مرجعاً أسبوعياً في اللاهوت وفي المواقف السياسية. مواكب لعصره، وهو المولود قبل مئة عام، كتب بقلمه يومياته وأسراره الكثيرة، واحتفظ بالكثير أيضاً، وترجم ودرّس وطوّر ثقافته في مجال الكومبيوتر، فلم يرتهب أمام تكنولوجيا عصرية وهو يتقدم في السن. لغاته الغربية كانت له جسر عبور تلميذاً وكاهناً ومطراناً وبطريركاً إلى عالم غربي بثقافته الواسعة. عمل لكنيسته وأنشأ مؤسسات رغم الظروف السيئة التي عرفها لبنان، ويشهد له قيامه بالمجمع الماروني عام 2003 الأول بعد المجمع الماروني عام 1736.
قال لا للبابا يوحنا بولس الثاني حين طلب منه مرافقته إلى دمشق فيما كان يخوض حينها أشرس معركة في وجهها


حين عاد البابا بنديكتوس السادس عشر من لبنان إلى روما، كانت صورة صفير في ذهنه حين اختار الاستقالة والعزلة للصلاة والتأمل. هما الأسقفان الأعلى رتبة اللذان يقدمان استقالتيهما الطوعية من رأس كنيستيهما، يعتزلان ويعودان كما باشرا حياتهما كاهنين «أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق» (مار بولس). خلال حبريته، زار البابا يوحنا بولس الثاني لبنان الذي خصّه بمجمع وبإرشاد رسولي، بسعي من صفير. فتحولت الزيارة مناسبة كي يفجّر فيها المسيحيون معارضتهم للنظام السوري وللسلطة القائمة حينها، حين احتفلوا مع البابا والبطريرك إلى جانبه على طرق بكركي وحريصا وبيروت.
قال لا لروما والبابا يوحنا بولس الثاني الذي احترمه وأحبه واعتبره أنه مثل كاردينال بولونيا الذي وقف في وجه الاحتلال الروسي، حين طلب منه مرافقته إلى دمشق فيما كان يخوض حينها أشرس معركة في وجهها. وقال لا لواشنطن حين وقفت ضد سيادة لبنان، فعارضته ورفضت استقباله، إلى أن تبدل موقفها ولم يبدل حرفاً في قناعاته. قال نعم للطائف كمخرج من الحرب الأهلية، وظل حريصاً على الدفاع عنه. وقال لا للوجود السوري طوال سنوات، وجهر بلا آلاف المرات للسلطة التي أنتجتها سوريا بعد الطائف، وللرئيس رفيق الحريري ومشروعه الاقتصادي في مذكرة شهيرة ضمت هواجس بكركي ومآخذها على استبعاد المسيحيين عن الإدارة وسوء تطبيق الطائف وعدم احترام الدستور. قال لا مرات عدة للرئيسين الياس الهراوي وإميل لحود، لكنه احترم موقع الرئاسة، وعارض التمديد لكليهما بحدة لم يصل إليها خصومهما، إلا أنه أيضاً رفض فكرة إجبار لحود على الاستقالة كيلا تسجل سابقة رئاسية.
من الظلم أن تختصر حياة صفير بمرحلة عام 2005، رغم أنه المحرك الأساسي لها. ومن الظلم له أيضاً أن يستغل بعض الطفيليين سياسياً وإعلامياً حياته، كما وفاته، لتصفية حسابات سياسية. هو الذي انتخب بطريركاً في آب عام 1986، في مرحلة شرسة من عمر لبنان. خلف البطريرك الكاردينال مار أنطونيوس بطرس خريش. ورغم أنه أتى في ظروف تسوية حملته إلى السدة البطريركية، عاكس كل التكهنات التي كانت لا ترى فيه إلا كاهناً ومطراناً يكتب الرثاء والرقيم البطريركي. لكنه تغلب على أسلافه بحكمة وبصلابة، وتحوّل زعيماً كنسياً ووطنياً بلا منازع، وحوّل الصرح البطريركي في بكركي قِبلة، حتى فاق عزه عز أسلافه البطاركة. ولم يأتِ موفد إلى لبنان إلا وزاره واستمع إليه، فكان سفيراً فوق العادة لبلد يتخبط بالحروب.
المعمودية السياسية الأولى لصفير، كانت في مواجهته لحظة استحقاق أساسية مع اقتراب انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل عام 1988. لم يجد السياسيون سوى بكركي لجسّ النبض والاتفاق على تأمين انتخاب رئيس جديد للجمهورية. كانت البلاد قد بدأت تشهد الانقسام المسيحي بعد سقوط الاتفاق الثلاثي.
حاول صفير تهدئة الساحة المسيحية وتأمين انتقال هادئ للسلطة. قد يكون، كما النواب الموارنة الذين كانوا يجتمعون لديه، صدّقوا أن الجميّل أعدّ لمرحلة ما بعده ولحكومة جديدة بعدما تعذر انتخاب رئيس جديد، إثر تهديدات الموفد الأميركي ريتشارد مورفي. لم يقبل الموارنة بأن يكون أمامهم خيار الفوضى مقابل انتخاب مخايل ضاهر، وكانوا على ثقة بأن الجميّل لن ينقلب عليهم، لكن الأخير زار دمشق وعاد منها وسلّم قائد الجيش العماد ميشال عون رئاسة الحكومة الانتقالية. تلك المرحلة الصعبة أدخلت لبنان وبكركي في مخاض جديد. وبدأ البطريرك يكتشف ألاعيب السياسة ودهاليزها وخداع السياسيين ومكرهم.
بدأت حرب التحرير ثم حرب الإلغاء وما رافقهما من التحضير لاتفاق الطائف. مواقف صفير لم تنل إجماع القوى السياسية، وفي مقدمها عون الذي غضب عليه لموافقته على «الطائف». البطريرك الذي أجبره مناصرو «الجنرال» الذين اقتحموا بكركي في تشرين الثاني عام 1989 على تقبيل صورة عون، متهمين إياه بمناصرة القوات اللبنانية والدكتور سمير جعجع والدفاع عن «الطائف»، ودفعوه إلى مغادرة بكركي إلى الديمان، هو نفسه الذي دافع عن حقوق العونيين حين نُفي قائدهم إلى باريس، كما دافع عنهم بشراسة في آب 2011، ودعاهم إلى قرنة شهوان فانسحبوا منها، لكنه ظلّ أميناً على استقبالهم ومراعاته لهم، قبل أن يعترف بزعامة عون بعد الانتخابات النيابية عام 2005. ومع ذلك، بقوا -مع آخرين غيرهم - على عداء له، حتى في استقالته ومرضه.
عاش الموارنة أسوأ كوابيسهم في ظل حرب الإلغاء والشرخ الذي أحدثته في المجتمع المسيحي، فيما كان الأب الروحي يرى أبناءه يقتتلون، ولا قدرة لديه على ردعهم رغم محاولاته الحثيثة، ليشهد بعد ذلك دخول الجيش السوري إلى بعبدا، وخروج عون إلى السفارة الفرنسية وإبعاده من ثم إلى باريس. إذا كان صفير قد أيد الطائف وانتخاب رئيس جديد للجمهورية، إلا أنه لم يكن مؤيداً للمسار الذي أدى إلى مرحلة أقسى من حروب الاقتتال الداخلية، بعدما شهد فصول انهيار الطائف على أيدي منفذيه. بعد إبعاد عون، جاء تفجير كنيسة سيدة النجاة وما نجم عنها من محاكمة جعجع وسجنه. لم يصمت صفير عمّا تعرض له المسيحيون، والموارنة تحديداً، بعد سجن زعمائهم ونفيهم، وإبعادهم عن الحياة السياسية، في مقابل إطلاق يد حلفاء سوريا. ظلّ يردد في عظاته كلاماً قاسياً، وارتفعت لهجته تدريجاً إلى أن طالب بمقاطعة الانتخابات النيابية عام 1992. كل خطبه اتسمت بقساوة في المضمون، لكنه حافظ على أخلاقيات رفيعة في الممارسة السياسية كما في حواراته مع القيادات على تنوعها. أبقى أبواب بكركي والديمان مفتوحة، فلم يقفلها أمام أي شخصية موالية أو معارضة له، مهما كانت شراستها التي تعبّر عنها عند أدراج الصرح نفسه. في زمن حبريته، لم تبق شخصية إلا وزارته، يكاد الذين لم يقابلوه مِن السياسيين يعدون على الأصابع. عرف رؤساء جمهورية ورؤساء حكومات ورؤساء مجالس نيابية، وصاغ علاقات جيدة على مستوى راقٍ من التعامل المسؤول. خبرته علّمته أن يكون صريحاً ومتشبثا بمواقفه التي دافع عنها بصلابة بين 1990 و2005. تلك المرحلة التي عاشها بكل تلاوينها، من الانتخابات التي قاطعها المسيحيون نزولاً عند رغبته، إلى الانتخابات اللاحقة التي انتقدها لأنها لم تكن عادلة بسبب قوانينها المركبة والمفصّلة على قياس أصدقاء سوريا.
بين المرحلتين وقف صفير في وجه مرسوم التجنيس والتلاعب بمصير لبنان الديموغرافي، وسلطة الترويكا، ورفض الفراغ الرئاسي، واضطر مكرهاً تحت إلحاح فرنسا ودول حليفة على تسمية مرشحين رئاسييين لم يؤخذ بهم. ولم يكن ليتردد في الجهر بها، مطالباً بخروج الجيش السوري. ولم يكفّ عن ذلك إلى أن توج مسيرته تلك بنداء المطارنة الأول.
هي المعمودية الثانية لبطريرك تحول زعيماً سياسياً لطائفته في غياب زعمائها. بين النداء الأول وعام 2005، عرف صفير كيف يحوّل كلمات قليلة انقلاباً تاماً على مرحلة الاستكانة القائمة. مع قرنة شهوان، والمطران يوسف بشارة، وشخصياتها التي شهدت على مرحلة استثنائية، تحولت بكركي مقصداً لكل من عارض الوجود السوري، وأيضاً لكل من جاءها منتقداً لمواقف صفير المطالب عودة المنفيين وخروج المسجونين.
فعل النداء الأول فعله. لامس وليد جنبلاط، فعقد معه مصالحة الجبل التاريخية عام 2001، وأعاد لحمة الجبل بعدما تهجّر مسيحيوه بفعل حرب 1983. كان صفير بذلك يؤسس لعودة المسيحيين، ويعيد وصل ما انقطع بينهم والدروز، وهو ما أثار امتعاضات لبنانية وسورية. لكن النداء لم يتوقف هنا، بل تسلل إلى طبقات سياسية بدأت تعي معنى إعادة الاعتبار للسيادة اللبنانية. في هذه المرحلة لم ينقطع حوار بكركي مع كل القوى من دون استثناء: الرئيس نبيه بري وحزب الله والحريري. لكن الاندفاعة قوبلت بحملة 7 آب 2001، والتوقيفات التي نفذتها الأجهزة العسكرية في حق مناصري القوات والتيار الوطني الحر. تحركت السلطة لمواجهة زلزال التظاهرات، وانطلق مسلسل جديد من القمع، لم يسكت عنه صفير، بل صعّد لهجته في النداء الثاني وفي العظات.
انطلق البطريرك بحملات داخلية وخارجية للمطالبة برحيل الجيش السوري وتطبيق الطائف، وبقانون انتخابي يؤمن صحة التمثيل، فأيد العودة إلى قانون 1960، إلى أن جاء اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 ومرحلة الاغتيالات اللاحقة، وما شهده لبنان من تظاهرات وانقسام اللبنانيين بين 8 و14 آذار. رغم أن تظاهرات 14 آذار اعتُبرت امتداداً لنداءات بكركي، إلا أن صفير ظل حذراً من المرحلة المقبلة. زار قريطم معزياً، في لحظة تخوّف على مستقبل لبنان، ووقف إلى جانب المطالبين بالحرية والسيادة، لكن لم يرقه أن تستعد القوى السياسية للانتخابات وفق قانون قديم أثبت عقمه، ولم يرضَ عن ترشح شخصيات مقربة منه للانتخابات.
بعد الانسحابين الإسرائيلي والسوري، لم يدم فرح صفير طويلاً. فالأحداث التي تلت عام 2005 زادته ألماً، بقي على تفاؤله وخشيته معاً، في أن يفقد لبنان هويته ويصادر قراره مجدداً. كان لبنان يعيش على وقع تطورات خطرة، وكان البطريرك يعيش على وقع تقدمه في السن ورؤيته لكنيسة تحتاج إلى تغيير وتستثمر ما حققه فيها، وما عجز عن استكماله بفعل الأحداث وانغماسه في الشأن الوطني. استقال صفير من البطريركية المارونية عام 2011، وهو في الحادية والتسعين من عمره. لكنه بقي هو نفسه، صلباً محباً تقياً، لا يتعب ولا يملّ، وفي كل سنة في مثل هذا الموعد يتجدد عمره سنة جديدة يحتفل بها مع حلقة ضيقة، وكثر كثر يتمنون له عمراً مديداً، وهو الآتي من عائلة معمّرة. شهد على رحيل كثيرين وأحب كثيرين وأبغضه كثر، عرف أسراراً كثيرة وخبر نفوس شخصيات كثيرة وانقلابها أو ثباتها. كان وفياً لإيمانه ومبادئه، كما بقي كثيرون أوفياء له. رحل ومعه زوادة كبيرة من المحبة، آخذاً معه الكثير من هيبة الكنيسة وقداستها. صوته لا يزال هادراً، وضحكته لا تزال على طفوليتها، وصورته واعظاً أو خاطباً بنبرة واضحة وحقيقية، هي الأسمى، هي الباقية، لا صورته المسربة من المستشفى في أكثر اللحظات الإنسانية مرارة، بما تحمل من انتهاك صارخ وسخيف من روحيين ومقربين منه لخصوصيته وسنّه ومرضه، الذين حاولوا في أيامه الثلاثة الأخيرة تطعيم وفاته بما يشبه الإذلال. لكن أيامه الثلاثة كأيام سيده الأخيرة، هي أيضاً قيامته. هو الماروني ابن الكنيسة الأنطاكية عن حق، المتواضع والبسيط، الذي لم يعرف في حياته إلا حباً صافياً لمسيحه ووطنه، وهو الذي شهد قيام لبنان والكنيسة معاً، فلم يفصل بينهما ولم ينفصل عنهما. إنه البطريرك صفير الذي غاب عنا، فغاب معه المجد الذي أُعطي له.