بعد الملازم اول احمد الحاج عام 1956 والملازم اول غابي لحود عام 1959، كان الملازم سامي الخطيب عام 1960 ثالث الرجال الاوائل للشعبة الثانية في ظل رئيسها انطون سعد. مذذاك سيمكث فيها بلا انقطاع طوال عقد من الزمن، يصنع سمعة مَن سيُدعى «الوالي». لقب اطلقه عليه صائب سلام بكل ما يرمز من مغازي التسلط والقسوة العثمانيين. عزاه سامي الخطيب إلى واقع أنشأته في بيروت السنوات الثلاث الأولى من عهد فؤاد شهاب. استقطب قبضايات الأحياء ووجهاءها والشخصيات النافذة، المسيحية والإسلامية، ومنحهم حماية الإستخبارات العسكرية في مقابل تعاونهم بمدّهم إياها بالأخبار والتقارير عن التحرّكات المحلية، فجعل منهم مخبرين. بينهم مَن يتقاضى راتباً أو يحصل على رخصة حمْل مسدس له أو لأنصاره أو تُسهَّل له معاملات. تحوّل ضابط الإستخبارات زعيماً سياسياً موازياً لأولئك التقليديين الذين عرفهم البيروتيون. لم تتخذ الشعبة الثانية موقعها المؤثر إلا غداة محاولة الانقلاب التي نفذها الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1961، ستحمل سامي الخطيب على تولي التحقيق مع قادة الحزب، لا سيما منهم رئيسهم عبدالله سعادة الذي سيمثل امامه ساعات لانتزاع إعترافات منه. بسبب التزامه الصمت، عامله بقسوة لم يغفرها له القوميون السوريون. حتى أيامه الأخيرة كان لا يزال يحتفظ بتسجيلات الإعترافات تلك في منزله في قريطم. لأن المقصود ليس انقلاباً فحسب، بل قتل فؤاد شهاب وإسقاط نظام برمته، لم تكن ثمة أعذار أمامه للتساهل. خلافاً لرئيسه غابي لحود، الذي غاب قبل سنة وشهرين (آذار 2018)، محتفظاً في منزله في مدريد بصورة فؤاد شهاب فقط، من السهولة بمكان اكتشاف اعتزاز سامي الخطيب بثلاث صور على منضدات مكتبه: فؤاد شهاب وجمال عبدالناصر وحافظ الأسد. على نحو ما، صنع هؤلاء تاريخ الرجل في لبنان.
على مرّ صعوده في الشعبة الثانية، في عهدي فؤاد شهاب وشارل حلو، عني سامي الخطيب، في ظل أنطون سعد، ثم في ظل غابي لحود منذ عام 1964، ببناء العلاقة الاكثر تعقيداً بين نظامين عربيين مجاورين للبنان، كنَّ احدهما للآخر عداء مستحكماً: الناصرية وحقبتا الإنفصال عام 1961 ثم البعث منذ عام 1963 في سوريا. ساورت العدوّين شكوك في أن كلا منهما ينشئ على الاراضي اللبنانية خلايا مناهضة للآخر للإنطلاق منها إلى داخله والإعتداء عليه. اذذاك وجد لبنان نفسه أسير تناحرهما. إختار الإنحياز الى مصر من دون قطع تواصل الحدّ الأدنى مع سوريا. لأن لبنان كان أقرب الى جمال عبدالناصر منذ عام 1959، راح السوريون يستفسرون عن «النقيب السنّي» الذي يستقبله الزعيم المصري. بذلك تعاقبت عليه محطات بالغة الأهمية على مرّ عقد الستينات: انتخابات 1960 و1964، قبل الإنخراط في محاولة تجديد ولاية فؤاد شهاب إلى أن رفضها الرئيس. في عهد شارل حلو كان غابي لحود واجهة العلاقة المباشرة بالرئيس، فيما الأرض متروكة لرئيس فرع الأمن الداخلي، إلى أن أضحى قبالة محطات ثلاث متلازمة: فضيحة خطف الميراج في ايلول 1969. لم يكن سامي الخطيب أحد أبطالها سوى في دقائقها الاخيرة، فيما عُهِد في استدراج الديبلوماسيين السوفياتيين إلى الملازم أول الطيّار محمود مطر. هاجم على رأس جهاز الأمن المشترك مع عباس حمدان شقة الديبلوماسيين، وبخطأ مكلف غير محسوب نجم عن اطلاق رصاصة، فشلت خطة كشف الصفقة بالجرم المشهود. ثم بعد أقل من شهرين في تشرين الثاني 1969، إنضم إلى مفاوضات اتفاق القاهرة كأمين سرّ قائد الجيش العماد اميل البستاني إبان مفاوضاته مع ياسر عرفات. كتب بنفسه محاضر المفاوضات التي راح يتبلغها غابي لحود. ثالث المحطات المكلفة انتخابات رئاسة الجمهورية عام 1970. وثق لحود بالنواب الذين وعدوه بمنحه أصواتهم، بينما شكك سامي الخطيب في صدقيتهم وتوقع خسارة مدوّية للمرشح الشهابي الياس سركيس.
مع ذلك، بتكليف من غابي لحود، وبأمر مهمة وافق عليه قائد الجيش العماد جان نجيم لم يُحَط شارل حلو بمعلومات دقيقة عنها، ذهب سامي الخطيب إلى القاهرة لطلب دعم جمال عبدالناصر لترشيح حاكم مصرف لبنان (سركيس). في اجتماعهما في منزل الرئيس في منشية البكري في حضور مدير مكتبه سامي شرف، قال الزعيم المصري: «الياس سركيس ده ما اعرفوش».
لمّح إلى احتمال أن تؤول إليه قيادة الجيش بالأصالة بعد التخلص من عون


ثم أضاف: «أريدك أن تذهب مباشرة إلى الرئيس شهاب من دون المرور بالتراتبية السائدة عندكم، وتقول له إنه هو مرشحي الوحيد للرئاسة، وليس لديّ أي مرشح سواه. المرحلة المقبلة توجب وجوده على رأس الدولة اللبنانية. قلْ له أيضاً إنني مستعد لتقديم دعم سياسي كامل له، ومستعد لدعم مالي مع أنني في حاجة إلى الفلس الواحد هنا في مصر، ومستعد لدعم عسكري بالسلاح إذا اقتضى الأمر. لكنني لا أعرف الياس سركيس. أنا أؤيّد الرئيس شهاب وحده».
أذن سقوط الشهابية بحقبة جديدة. أقصى سليمان فرنجيه ضباط الشعبة الثانية إلى مناطق حدودية نائية لمعاقبتهم، قبل أن يُعيّنوا ملحقين عسكريين في دول آسيوية وافريقية ولاتينية في كانون الأول 1970، من بينهم سامي الخطيب في باكستان. بانقضاء سنة استدعيوا كي يحالوا على المجلس التأديبي بتهم قيل إنها ارتكابات العهد الشهابي، فسُرّحوا. تقدّموا بمراجعات إبطال لدى مجلس الشورى، فانتقم منهم العهد الجديد بإحالتهم على المحكمة العسكرية في ايلول 1972، وإصدار مذكرات توقيف في حقهم. اذذاك اختار سامي الخطيب الطريق التي ستغيّر حياته برمتها.
بلغ إليه من أحد أصدقائه أن زنزانته في سجن رومية تحمل الرقم 8. تذكّر عبارة للواء حافظ الأسد - قبل ان يصبح رئيساً - نقلها إليه عام 1969 نائب رئيس شعبة الإستخبارات العسكرية السورية الرائد علي دوبا يرافقه الرائد سليم حسن، هي أن «أبواب سوريا مفتوحة لك. لن تُعامَل إلا كأي ضابط سوري في قيادة هذا الجيش في أي وقت تأتي». كان سامي الخطيب نجح وسليم حسن في توقيف شبكة متورّطين في عمولات غير قانونية في الجيش السوري هرب أفرادها إلى لبنان.
ذهب إلى فؤاد شهاب وأخطره بقراره. لم يوافق مفضّلاً له البقاء في بيروت. ردّ: «لن أدعهم يذلونني ويسجنونني. أنا ذاهب إلى الشام لأنني هناك ورقة في يدك بينما في السجن أكون ورقة في يد سليمان فرنجيه وصائب سلام».
من ثم أوفد شقيقه محمد الخطيب إلى سليم حسن، ناقلاً رغبته في اللجوء إلى سوريا: «هل لا تزال أبوابها مفتوحة كما وعد اللواء حافظ الأسد عام 1969».


مساء ذلك اليوم ذهب سليم حسن إلى وزير الداخلية علي ظاظا وأطلعه على هذه الرغبة، فكان أن اتصل الوزير بالرئيس الذي رحب فوراً، وطلب إنجاز ترتيبات ضمان انتقال الضابط اللبناني الملاحَق إلى دمشق وسلامته.
ليل 21 شباط 1973 بعدما صدر قرار منعه من مغادرة الأراضي اللبنانية من دون إذن مسبق من السلطات القضائية، انتقل في سرّية كاملة إلى مسقطه جب جنين ومنها إلى الحدود اللبنانية - السورية. انتظره شخصان ساعداه على عبور الجرد إلى داخل الأراضي السورية. زار سامي الخطيب رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السورية العميد حكمت الشهابي ومعاونه الرائد علي دوبا. في اليوم التالي انتقل إلى فندق أميّة، قبل أن يقيم في بيت خاص قبالة مقرّ آمرية سلاح الجوّ السوري في شارع المهدي بن بركة، المجاورة بدورها لمبنى قيادة الأركان السورية.
في اليوم الخامس إستقبله الرئيس السوري: «ليس لك أن تشكرني، بل أنا الذي أريد أن أشكرك. بفضلك تغيّرت وجهة اللجوء السياسي التي كانت دائماً من الشرق إلى الغرب. الآن أصبحت من الغرب إلى الشرق، فشكرًا لك».
في حزيران 1974 عاد الى بيروت في صفقة شملت ايضاً جان ناصيف وسامي الشيخة وكمال عبدالملك والعماد إميل البستاني الذي كان لجأ إلى دمشق في الشهر نفسه شباط 1973.
موطئ القدم هذا سيتيح لسامي الخطيب، مع اندلاع حرب السنتين، مفاتحته ورشيد كرامي أصدقاءه السوريين مراراً في تبنّي ترشيح الياس سركيس، «الشهابي النزيه»، فيمسي في ايار 1976 رئيساً للجمهورية. عندما استقال احمد الحاج في نيسان 1977 من قيادة قوة الردع العربية، كان سامي الخطيب الإسم الوحيد الذي طلبه الرئيس السوري من نظيره اللبناني، فاستجاب. مكث في المنصب حتى 31 آذار 1983 عندما اعلن أمين الجميّل إنهاء انتداب قوة الردع العربية في لبنان. ابتعد عن الصدارة في المرحلة الأطول في فراغ لم يكن عرفه الرجل منذ عام 1960، إلى أن باغته ما لم يكن في الحسبان: بعد ترؤس العماد ميشال عون حكومة عسكرية عام 1988، دعته سوريا إلى تولي منصب غير مسبوق: اول قائد مسلم لـ«نصف الجيش اللبناني».
بعدما رفض ضباط مسيحيون كميشال خوري وفهيم الحاج وأنطوان بركات وإميل لحود، ومسلمون كياسين سويد وعفيف شعبان، منصباً رديفاً لميشال عون على البقعة التي يسيطر السوريون عليها من الاراضي اللبنانية وقيادة «جيش المسلمين»، إيذاناً بإنقسام خطير، دعا حكمت الشهابي سامي الخطيب، أقدم ضباط الجيش آنذاك مذ تخرّج من المدرسة الحربية عام 1955، الموثوق به جداً الموضوع في تصرّف وزير الدفاع، إلى مقابلته.
قال له: «لا يمكن بلورة قرار سياسي - عسكري - امني في المناطق الوطنية قبل بلورة مرجعية عسكرية نضع في تصرّفها كل ما لدينا من إمكانات. نريد قيادة عسكرية للجيش في المناطق الوطنية، ونبحث عن ضابط يملأ هذه الصفات نرتاح اليه ونتعاون معه. انت بالنسبة الينا أهل لذلك، ولا احد سواك في نظرنا يستطيع وعي المدلول العملي لهذا الهدف. أريدك تولي المهمة».
قال له حافظ الأسد: أبواب دمشق مفتوحة أمامك


سأل سامي الخطيب: «هل سيكون متروكاً لي أن أوافق أو لا أوافق حتى، على ما قد يتقرّر مستقبلاً لمصير الجيش، وما قد تقرّرونه أنتم له؟».
طمأنت ردود رئيس الاركان السورية محدّثه. في بعض ما لمّح إليه احتمال أن يؤول المنصب إليه بالأصالة بعد التخلص من ميشال عون. بإغراء لا يقاوم: «إعمل قائداً للجيش الآن، قد تستمر في المنصب في ما بعد».
استمرت قيادة سامي الخطيب «الألوية الغربية» سنة و19 يوماً، ما بين تشرين الثاني 1988 وتشرين الثاني 1989، على مرّها طعن في شرعية ميشال عون وطلب إحالته على محاكمة عسكرية، مجارياً الخدعة السورية. في اليوم الرابع لانتخابه، 9 تشرين الثاني، خابر الرئيس الجديد للجمهورية رينيه معوّض صديقه القديم منذ الحقبة الشهابية وجاره في الحازمية، ودعاه الى مقابلته على عجل.
قال، في معرض تبديد ما كان شاع عن احتمال إسناد منصب قائد الجيش المخصص تاريخياً وعرفاً للموارنة إلى طائفة أخرى: «لم ينضج الوضع السياسي في البلاد بعد على نحو يسهّل إحداث تغيير في قيادة الجيش وإنتقالها إلى غير الموارنة. سيبقى القديم على قدمه، وفي قيادة الجيش بالذات. أعتقد بأننا لن نكمل العمل معك على ما انت فيه الآن».
سرعان ما دعاه حكمت الشهابي إلى مكتبه على اثر انتخاب الياس هراوي، كي يسمعه ما لم يشأ الإصغاء إليه: «من أجل الإستقرار في لبنان والمضي في حل الأزمة الذي نعمل له، أرى، أبو بديع، أن الأوان حان كي تستقيل من قيادة الجيش. يقتضي أن تضحّي معنا. لم نستطع إجراء تغيير رئيسي في التركيبة المعتمدة للمسؤولية العسكرية في لبنان. لا مناص من الإستقالة. إذهب واحكِ مع الرئيس الياس هراوي. نحن متفقون على هذه الخطوة».
كما في كل مرة يترك منصباً من غير توقّع ما سيليه، فتحت دمشق مجدّداً أمامه باباً عريضاً على الحياة السياسية: وزيراً للداخلية في حكومتي عمر كرامي عام 1990 ورشيد الصلح عام 1992 يتنكب أول انتخابات نيابية عامة يفرضها السوريون من أجل إحكام القبضة على مجلس النواب. إنتُخب نائباً في ثلاثة برلمانات متعاقبة أعوام 1992 و1996 و2000، قبل ان يخسر انتخابات 2005.
مذذاك اعتزل. أصدر جزءاً أول من سيرته، قبل أن يهاجمه المرض بقوة في طور وضع الجزء الثاني.