لم تصدر الدولة اللبنانية أي قطع حساب منذ 1979 إلى اليوم. وقطع الحساب هو «الجردة» التي تُظهر حقيقة الأرقام التي أنفقتها الحكومة، وقامت بجبايتها، في العام السابق، تنفيذاً لقانون الموازنة. ومرة جديدة، يعود الحديث عن تسوية تتيح اليوم إقرار قطع حساب عام 2017 نظراً لكونه شرطاً دستورياً لنشر موازنة 2019. طبعاً هذا الحلّ لا يعالج مشكلة ميزان الدخول، ولا يتيح إجراء الرقابة الفعلية على إنفاق الحكومات السابقة بكل مكوّناتها، ومدى إهدارها للمال العام واستعماله كأدوات لتعزيز النفوذ السياسي لأركان السلطة التي تعاقبت منذ فترة ما بعد الحرب الأهلية إلى اليوم.فمنذ انتهاء الحرب الأهلية، دارت شبهات التخلّف عن إقرار قطوعات الحسابات حول الرئيس فؤاد السنيورة الذي شغل وزارة المال مباشرة أو بكونه وزير دولة للشؤون المالية نحو 10 سنوات، يضاف إليها أربع سنوات ونصف من فترة الوزيرين جهاد أزعور ومحمد شطح حين كان السنيورة رئيساً للحكومة. وبلغت هذه الشبهات ذروتها بعد ما أثاره رئيس مجلس النواب نبيه بري في حزيران 2010 عن «إنفاق حكومة السنيورة بين عامي 2006 و2008 مبلغ 11 مليار دولار من دون أن نعرف كيف». وقال لاحقاً: «لا مستندات قانونية فيها على الإطلاق وبينها هبات ومساعدات إلى الحكومة اللبنانية أهدرت»، واصفاً الأمر بأنه ينطوي على «بعد سياسي في حجم إهدار مالي ضخم كهذا بلا قيود».
وفيما كان السجال السياسي بين الطرفين يستعر بخلفيات متعددة، فَتَحَت مسألة الـ11 ملياراً باب البحث عن قطوعات الحسابات على مصراعيها، فتكرّست الشبهات حول السنيورة ودوره في ما بات يشتهر بأنه أكبر عملية «إخفاء» للهدر والسرقات.

السنيورة يتّهم ديوان المحاسبة
في الواقع، إن التدقيق في قطع الحساب، أي مقارنة مختلف حسابات الخزينة بحسابات المهمة (أي المستندات التي تثبت العمليات المنفذة في الخزينة وقانونيتها) يتيح لديوان المحاسبة البتّ بقطع الحساب الذي يكون بمثابة صكّ يمهّد لمنح البراءة أو لإثبات الإدانة.
هذا الصكّ محجوب ومتعذّر لألف سبب وسبب، تقني وسياسي. إلا أن دفاع السنيورة يركّز على اتهام ديوان المحاسبة بالإهمال والتقصير في هذا المجال. يقول لـ«الأخبار»: «هم ليسوا مؤهلين، ولا يريدون أن يبتّوا بقطوعات الحسابات، بل يغرقون في أعمال الرقابة المسبقة التي تستعمل لأغراض النفوذ وسواها، فيما وزارة المال أنجزت قطوعات الحسابات منذ 1993 وأرسلتها إلى الديوان، فلماذا لم يدرسها الديوان ويبتّها طوال السنوات الـ25 الماضية؟ أما تحجّجهم بأن ميزان الدخول غير متوافر، فهو أمر لا يلغي القيام بهذا العمل لأن قطع الحساب هو نتيجة تنفيذ الموازنة لسنة محدّدة. هم كانوا يبحثون عن ذريعة لعدم القيام بهذا العمل».
سليمان طرابلسي: الحسابات الواردة إلى الديوان فيها عيوب ونواقص

ويستدل السنيورة بما حصل لاحقاً لتبرير هذه الاتهامات، مشيراً إلى أن آلية معالجة ميزان الدخول أقرّت في عام 2005 ولم تطبق إلا بعد مرور أكثر من 10 سنوات». كذلك يقول إن المبرّرات التي اتخذها ديوان المحاسبة في سياق رفضه دراسة الحسابات تتضمن الإشارة إلى وجود أخطاء ونواقص في المستندات التي أرسلت إليه، إلا أنه تبيّن أنها ذريعة لعدم إنجاز الحسابات التي تقع ضمن أعمال الرقابة اللاحقة، بدليل أن «كل مشاريع قطوعات الحسابات التي أعدّتها وزارة المال تتضمن نصّاً يشير إلى إمكانية تصحيح الأخطاء والقيود وإعادة تكوين الحسابات بعد اكتشافها من ديوان المحاسبة. فما الذي كان يمنع ديوان المحاسبة من القيام بدوره طوال هذه السنوات؟».
ويستند السنيورة إلى هذا التفسير للإشارة إلى أن مسألة الـ11 مليار دولار تحوّلت إلى اتهامات تكرّست في الذاكرة اللبنانية على أنها مبالغ مسروقة أو مُهدَرة، فيما «أعلن المدير العام للمالية ألان بيفاني، في مؤتمر صحافي، أن هذه المبالغ موجودة ولم تختف كما أشيع، وأنه يمكن إعادة تكوين الحسابات من خلال تتبّعها في مختلف المسارات التي تسلكها، سواء عبر الصناديق أو حسابات المصرف أو غيرها».

طرابلسي: حسابات بلا مستندات
ما يقوله السنيورة عن غرق ديوان المحاسبة في الرقابة المسبقة وتقديمها على أعمال الرقابة اللاحقة (دراسة الحسابات المالية للدولة والبتّ فيها)، لا يتوافق مع تشخيص الوزير السابق سليمان طرابلسي، الذي شغل في تسعينيات القرن الماضي، وبداية الألفية، منصب المدعي العام في الديوان. خبرة طرابلسي في هذا المجال نابعة من كونه كُلّف مهمة تفعيل رقابة الديوان على الحسابات وتعديل النصوص ذات الصلة، وهو يميّز بين غرق الديوان في مهمة الرقابة المسبقة وبين عدم قدرته على البتّ في الحسابات. فالمشكلة برأيه، أن «حسابات المهمة كانت ترسل من وزارة المال إلى الديوان، لكنها جاءت ناقصة ويشوبها عدد كبير من العيوب التي لا تسمح بدراستها والبتّ بصحتها». ويلفت طرابلسي إلى أن الديوان «راسل وزارة المال مرّات عدة لاستكمال النواقص المطلوبة منها، إلا أن الوزارة لم تستجب ولم تستكمل الملفات، فأصبحت الحسابات غير مكتملة وغير مهيأة للبتّ فيها».
ولا يكتفي طرابلسي بهذا الأمر، بل يشير إلى أن «الحسابات العائدة للسنوات الماضية لا يمكن البتّ فيها، أي لا يمكن الديوان التدقيق فيها ووصفها بأنها سليمة محاسبياً وقانونياً. دراسة هذه الملفات تعني دراسة ملايين المستندات التي قد لا تكون متوافرة كلها، خلافاً لما يمكن القيام به لجهة دراسة حسابات عام 2017 اللازمة لإقرار موازنة 2019». ويعتقد أنه لا يجب الخلط بين إمضاء الديوان وقته في الرقابة المسبقة وبين عدم إنجاز الرقابة اللاحقة التي كان سببها «النواقص في الحسابات».

ملخص مسار قطوعات الحسابات

عملياً، ما حصل في مسألة قطوعات الحسابات يمكن تلخيصه بالآتي:
- في فترة الحرب الأهلية، أي ما قبل 1992، لم تكن وزارة المال تسجّل كل وقائع العمليات المتعلقة بالنفقات والواردات، بل كانت غالبية قيودها متعلقة بخلاصة النتائج المالية من دون تفاصيل، أي بوجود نواقص في المستندات الثبوتية.
- تراكمت المسألة في فترة ما بعد الحرب، حتى صار صعباً التوصّل إلى ميزان دخول. ميزان الدخول هو رصيد العمليات في السنة السابقة، سواء كان فائضاً أو ناقصاً، وهو ضروري لمعرفة النتيجة المالية للدولة التي ستبدأ في السنة التالية والتي سيُبنى عليها لتحديد العجز المالي أو الفائض إن كان موجوداً.
- استشْرت الأزمة في تلك الفترة، بعدما تبيّن أن هناك الكثير من السجلات والقيود التي تشتّتت واحترقت ونقلت حتى بات يستحيل إصدار قطوعات حسابات.
- عام 1993، أصدر مجلس النواب قانوناً يعفي الدولة من إعداد الحسابات لغاية 1990، ثم أضيف إليه إعفاء من إعداد الحسابات لعامي 1991 و1992، ما زاد من تعقيدات إعداد ميزان الدخول.
- ديوان المحاسبة ربط البتّ بالحسابات بضرورة توافر حسابات المهمة (المستندات والوثائق الثبوتية للإنفاق والعمليات المنفذة)، وبالتالي بات يتعذّر التدقيق بقطع الحساب بلا حسابات مهمة غير متوافرة بشكل شامل منذ 1979، ما زاد من تعقيدات ميزان الدخول أيضاً.
- جرى تصفير الحسابات ورقياً في 1995، ما يعني أن ميزان الدخول يُعَدّ «صِفراً»، لكن الواقع كان مختلفاً، ولم تتبنَّ الحكومة أي إجراء جدّي لمعالجة المشكلة حتى عام 2005 حين أدرجت مادة في قانون الموازنة تشير إلى أن الحلّ يكمن في إنشاء حساب مؤقت للتسوية، لكن الحلّ لم يُنفَّذ.
- تكرّر الحديث عن الحلّ نفسه في 2011، إلا أنه لم يتحوّل إلى قرار ويبدأ تنفيذه إلا بعد عام 2014.
- يتضمن الحلّ المذكور إعادة تكوين الحسابات من خلال إنشاء حساب مؤقت للتسوية تسجّل فيه الحسابات والعمليات المنفذة فعلياً من دون قيود واضحة، فتجري مراسلة المصارف والبلديات والصناديق وغيرها ممن يعتبرون زبائن الدولة للحصول منهم على كشوفات بالعمليات المنفذة مع الخزينة، وتُسجَّل في هذا الحساب، على أن يعطى مهلة لإنجاز هذا الأمر من أجل تصفية الحساب تدريجاً، وصولاً إلى إقفاله.
- في آذار 2019، اعلن وزير المال علي حسن خليل، إنجاز الإدارة في «المالية» إعادة تكوين حسابات الدولة. لكن حتى اليوم، لم يُحل مجلس الوزراء قطوعات الحساب على مجلس النواب، ولا تمكّن ديوان المحاسبة من إحالة قطع حساب سنة واحدة (2017) مدقَّقاً على مجلس النواب.


في الدستور والقانون
ينصّ الدستور اللبناني في المادة 87 منه على أن «حسابات الإدارة المالية النهائية لكل سنة يجب أن تعرض على المجلس (النيابي) ليوافق عليها قبل نشر موازنة السنة التالية التي تلي تلك السنة». وتفرض المادة 195 من قانون المحاسبة العمومية على مصلحة المحاسبة العامة أن تضع كل سنة «قطع حساب الموازنة الذي يجب تقديمه إلى ديوان المحاسبة قبل 15 آب من السنة التي تلي سنة الموازنة. وحساب المهمة العام الذي يجب تقديمه إلى ديوان المحاسبة قبل أول أيلول من السنة التي تلي سنة الحساب»، وتضيف المادة 197 أنّ على «الحكومة أن تحيل مشروع قانون قطع حساب الموازنة على مجلس النواب قبل أول تشرين الثاني من السنة التي تلي سنة الموازنة».
وفي السياق نفسه، يفرض قانون إنشاء ديوان المحاسبة في المادة 53 منه، على الديوان، «أن يصدر كل سنة بياناً بمطابقة كل من الحسابات التي تقدم إليه مدعومة بالأوراق المثبتة المنصوص عليها في القوانين والأنظمة»، وتفرض المادة 54 أن تبلّغ بيانات المطابقة «إلى رئيس مجلس النواب لتوزّع على أعضاء المجلس، وإلى وزير المالية إذا كانت عائدة لحسابات الموازنة العامة والموازنات الملحقة وسائر الموازنات الخاضعة لتصديق السلطة التشريعية... وإلى وزير المالية ووزير الوصاية والهيئات المعنية والمرجع المختص بالتصديق على قطع حساب الموازنة لديها، إذا كانت عائدة لحسابات الموازنات الخاضعة لتصديق مرجع غير السلطة التشريعية».