من المفيد مراجعة ما أسفرت عنه الأحداث الأخيرة، وظاهراً نتائجها السياسية والأمنية.أولاً، ثمة بديهية ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، وعاليه ليست استثناءً عنها. كمية الأسلحة، الخفيفة والمتوسطة، التي في أيدي اللبنانيين، حزبيين وغير حزبيين، تارة بحجة المرافقة، وطوراً بحجة حماية الشخصيات، تذكّر بأيام الحرب. وهذا ليس حكراً على فئة حزبية. كثير من القوى السياسية تملك مخزوناً كافياً من السلاح، وترسانة، ولو اختلفت أشكالها كما جاهزيتها في مناطق نفوذها واستعداداً للنزول الى الأرض، جيلاً بعد جيل، لأن لديها فعلياً قاعدة صلبة كي تكون حاضرة على الأرض عدةً وعديداً وخطط تحرك، كل في مناطق نفوذه: الاشتراكي في الجبل، القوات في بشري، والمردة في زغرتا، فضلاً عن أمل وحزب الله في مناطق انتشارهما، في حين أن العونيين يحتمون كما في السابق خلف الجيش ويتلطّون به.
ثانياً، لا يمكن القفز بسهولة التقليل من حجم الخسائر. المتضرّر الأكبر مناصرو التيار الوطني الحر في الشوف وعاليه، مهما كابروا وبالغوا في تصوير انتصاراتهم. شيء ما انكسر في نظرتهم الى العودة الى الجبل، رغم أن بعضاً من نوابهم المعروفين بالاسم، يواصلون حملات التحريض عبر مناصرين من الجيل الجديد الجاهل لأبسط قواعد التاريخ والجغرافيا في المنطقة، والإصرار على زيادة منسوب الاحتفالات والمهرجانات العونية. إلا أن خروج الحزب التقدمي الاشتراكي من المعمعة من دون خسائر، فرض عليهم إعادة الحسابات مجدداً. لأن أي تحدّ مجاني من الآن وصاعداً لن يمر بسهولة، وأي زيادة في منسوب الفوقية، انتساباً الى العهد أو التيار، سيواجه مجدداً بردة فعل، ليس من جانب الاشتراكي وإنما من جانب القوى المسيحية الأخرى والمسيحيين الذين عادوا الى الجبل من دون منّة التيار الوطني الحر، علماً بأن التيار بدأ ردة فعله على القواتيين الذين لم يقفوا الى جانبه ولم يناصروه في معركته «المسيحية» ضد جنبلاط.
ثالثاً، في السياسة، حقق جنبلاط انتصاراً بمجرد أنه لم يتراجع ولم يهزم. بالعكس تماماً، فقد حقق تعاطفاً درزياً شعبياً ومن المؤسسة الدينية، وحصد أيضاً تأييداً سياسياً من مرجعيّتين، رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة سعد الحريري. كما من رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، الذي رفض الأمير طلال أرسلان تأييده في معركة الرئاسة، ومن المرجح أن فرنجية ضد إحالة جريمة البساتين على المجلس العدلي لو سلك الاقتراح طريقه الى مجلس الوزراء.
كانت الاتصالات بين رئيس الحكومة سعد الحريري وجنبلاط قد استؤنفت بعد الحادثة، وتوّجت بالعشاء عند بري. صحيح أن بري كحليف دائم لجنبلاط، قادر على منع تطويقه، لكن استدارة الحريري لها مغزاها أيضاً. لأن الحريري أدرك متأخراً أنه عزل نفسه عن بري وجنبلاط معاً، إضافة الى أنه ترك نفسه يغرق في تسوية العهد من دون حلفاء، بمن فيهم القوات اللبنانية، الى أن أصبح خاضعاً لإيقاع الوزير جبران باسيل فقط. طارت مفاعيل جلسات الساعات الخمس والعشاء الأخير بينهما، علماً بأن سياسيين مطلعين كانوا قد تحدثوا قبل حادثة عاليه بأن الأمور بين الحريري وباسيل ليست جيدة، وأن الموازنة و«عرقلتها» في مجلس النواب من بين أسبابها. بمجرد أن استخدم باسيل حق الفيتو وتعطيل الحكومة، أعاد مجدداً طرح صلاحيات رئيس الحكومة على بساط البحث. فحين كان يفاوض على تأليف الحكومة، كان يدرك أنه في صدد الإمساك بمفتاح الحكومة وقفلها، وعرف كيف يستفيد من مشاورات التأليف واستعجال الحريري وغيره لتأليف الحكومة بحجة سيدر وأمواله، والتمسك بالحقائب الوزارية مهما كان الثمن، حتى يمسك حصة تمكّنه عند أول استحقاق من أن يعطّل مجلس الوزراء. لن يتخطّى الحريري بسهولة خطوة باسيل، والتسوية بينهما أصبحت قائمة على شبكة مصالح ليس إلا، تحتاج كل أسبوع الى عملية تجميل لإبقائها، ومن الصعب عليه في ظل ضغط المحيطين، أن يهضم كسره مرة بعد مرة، كما ارتداد المشكلة بين باسيل وجنبلاط عليه.
رابعاً، بصرف النظر عن أي مشكلة سياسية بين جنبلاط والتيار، ثمة التباس في فهم واقع الدروز عند البعض، ومنهم التيار الوطني. الدروز هم طائفة مؤسسة قبل لبنان الحالي وفيه وبعده. في المتصرفية وقبلها، في لبنان الكبير والانتداب وكل مراحل الحياة السياسية. ودورهم لا يتأتّى من عددهم، بل من حضورهم السياسي، المحلي والإقليمي، وعلاقاتهم الدولية. تكمن طريقة التعاطي معهم، ولا سيما من جانب بعض القوى المسيحية كالتيار اليوم، في أنها تريد القفز فوق أي خصوصية. هذا لا يعني تقليلاً من أهمية الأخطاء التي ترتكبها القيادات الدرزية، ومنها الاشتراكي. لكن لكل خصوصية أخطاؤها وقد تكون حرب الجبل واحداً من الأخطاء الكبرى التي دفع جنبلاط ثمنها، ودليل على ذلك نظرة واقعية الى وضع الجبل المطوّق من كل الجهات، وحالته الاقتصادية والتطورات الإقليمية التي أثرت عليه. لكن هذا لا يبيح لفريق من المسيحيين أن يلعب لعبة خطرة في التحول رأس حربة لكسر جنبلاط، تنفيذاً لرغبة إقليمية أو محلية ما. حتى حزب الله، يعرف تماماً كيف يستوعب أو يضع حداً لمشكلة مع جنبلاط أو يزكّيها، انطلاقاً من موقعه المحلي والإقليمي. مشكلة فريق مسيحي مع الدروز عن طريق جنبلاط، لا تعني استرجاعاً لهيبة أو توازناً، بل تعني أن البعض لم يتعلم من تجارب الحرب والسلم، وعدم الاستقواء بطائفة على أخرى. فما يجري ليس فورة مارونية سياسية بفعل قوة ذاتية، إنما بفعل الاحتماء بحلف سياسي مع قوى 8 آذار له امتداده الإقليمي.