يُلحّ الهاتِف بالرنين. يلتقِطه صاحبه، فلا يسمَع سلاماً كالعادة. يسأله المُتصل فوراً: «هناك خبر عاجل يقول إن (فلان الفلان) أُدرج اسمه على لائحة العقوبات الأميركية، هل أنتَ المقصود؟». يضَع السماعة. يفتح شاشة التلفزيون، وقد زاغت نظراته. يرنّ الهاتف مجدداً: «هل هذا تشابه أسماء؟». ولكن، لا يُمكن التشابه أن ينسحِب على الشركات والمؤسسات التي يملِكها. يُجيب: «لا، هذا أنا بذاته. لقد أصبحت على لائحة «أوفاك»». كم يحتاج أحدهم لأن يكون بارِد الأعصاب عندما يأتيه نبأ «كالقضا المستعجل»، يبشّره بأنّ كل ما بناه في سنوات سينهار كقصر من ورق؟ لماذا؟ لأن في العالم دولة اسمها الولايات المتحدة الأميركية، تقررّ متى يحلو لها أن تحارب أعداءها، إن لم يكُن بالحرب العسكرية التقليدية، فبلقمة عيشهم.طوّرت واشنطن أساليب «بلطجتها» وبرامجها العقابية. إلى جانب الطائرات والصواريخ وكل مشتقات البارود، تستخدم دولارها سيفاً مصلَتاً فوق رقاب من لا يأتمر بأمرها. دول وأنظمة وأفراد، أدرجهم «مكتب مراقبة الأصول الأجنبية» الأميركي على لائحة عقوباته، بهدف تحويل حياتهم إلى جحيم… فإما اتباع سياسة أكثر اتساقاً مع الولايات المتحدة، أو دفع غرامات. أصبحت العقوبات الاقتصادية وسيلة ضغط على الناس لتبديل سياساتهم، ومصدر دخل للخزينة الأميركية.
بدأت هذه القضية تصير جزءاً من حياة اللبنانيين. بين الحين والآخر، يُضاف رجال أعمال وأصحاب شركات إلى اللائحة بتهمة «تبييض الأموال وتمويل حزب الله». آخرهم، قاسم شمس وشركة صرافة يملكها. ليست هي المرة الأولى التي تفرض فيها الولايات المتحدة عقوبات على رجال أعمال لبنانيين لهم نشاط اقتصادي واسع في عدد من الدول، خصوصاً في القارة الإفريقية. الإدراج على اللائحة لا يقتصر على تجميد بعض الأصول المالية ومنع «المُعاقَبين» من فتح حسابات في البنوك. التداعيات أكبر بكثير من ذلك. سرعان ما يتحوّل «المعاقَب» منبوذاً يخشى الجميع «الاقتراب» منه. لا تشمل العقوبات حساباته المصرفية وحسب، بل حسابات كل أفراد عائلته، وتمنعه من الاستمرار في أيّ عمل تجاري، بسبب عزوف التجار ورجال الأعمال عن التعاون معه، فتتوقف حركة السيولة المالية لديه، ولا يعود قادراً على إصدار الشيكات أو فتح اعتمادات بعدَ إغلاق أرصدته. تنجم عن هذه التدابير أضرار أخرى اجتماعية ومعنوية تطاول كل الأفراد الذين يعملون معه، في مؤسسات تضم آلاف العمال. «لعلّ الإيجابية الوحيدة التي تسجّل في هذه الشدّة أنّ المرء يستطيع أن يعرف أصدقاءه الحقيقيين»، يقول أحد المعاقبين مازحاً. غالبية الذين فرضت عليهم عقوبات تقلّصت دائرة أصدقائهم. وليس مبالغاً القول إنّ التأثير في بعض الأحيان يصل إلى درجة أن يرفض صاحب دكان البقالة بيعهم، أو يصدف أن يراه صديق في الشارع فيقرر تجاهله! لكن في المقابل، يحظى بعضهم بتضامن محيطهم.

شهادات حية
يظّن المرء وهو في طريقه إلى رؤيتهم أنه سيكون أمام أناس محطمين نفسياً. لكنهم في الحقيقة ليسوا كذلك. أن تُدرجك أميركا على لائحة عقوباتها، وتحاربك في رزقك، تسلبك تعب سنوات وتبقى واقفاً على رجليك أمر صعب، لكنه يحصل. يضحك أحد المدرَجين على اللائحة وهو يتحدث عمّا حصل معه: «يظل المرء يخطط للمستقبل». ما الذي تغيّر بعدَ أن صرت على اللائحة؟ «كل الأمور تغيرت بين ليلة وضحاها. أصبحت، وشركاتي، بلا حسابات مصرفية، وبات ممنوعاً عليّ حتى أن أفتح اعتماداً، ولو شخصياً. حتى إن أولادي مُنعوا من ذلك بداية. وقد حاولت المصارف أن تصادر الأموال التي أودعتها فيها، ولم استطع استرداد إلا جزء منها بعدَما هدّدتُ المصرف باستخدام العنف ضده. لم يعُد لدي ما أخسره». القصة ليست مزحة. لهذا الرجل عمل في الخارج. تعرض موظفوه لما يُشبه الفيلم البوليسي. دهمت منازلهم قوة خاصة أمنية في البلد الذي يعملون فيه وصادرت أوراقهم. لم تتحرك السفارة اللبنانية، بل تصرفت وكأنّ الأمر لا يعنيها! يستمر الرجل اليوم بأعمال على مستوى ضيق جداً. في عالم التجارة «ما حدا بيعود بيقلك مرحبا. حتى أصدقاؤك يقلّون!»، فضلاً عن توجّسه من السفر إلى بلاد أجنبية مخافة توقيفه.
لماذا يُمكن أن توقف السلطات شخصاً ما أُدرج على لائحة العقوبات؟ يقول آخر إنه «من الأشخاص الذين حكماً سيتعرضون لهذا الإجراء». فهذه اللائحة تُدرِج رجال الأعمال وفقَ تصنيفات معينة. هو مثلاً «إرهابي دولي». غيره اتُّهم بتبييض أموال، وآخرون بالمخدرات أو تمويل حزب الله. الإجراءات التي اتخذتها المصارف اللبنانية في حقهم متشابهة. أحدهم كان يحوّل من حسابه المصرفي إلى حسابات أبنائه «مصروفهم» الشهري. المصارف اللبنانية قررت إثر ذلك منع أبنائه أيضاً، غير المدرَجين على لوائح العقوبات، من فتح حسابات شخصية لهم! مُعاقَبٌ آخر لم يقبل المصرف منه دفع القسط الجامعي لابنه! وفي بعض الحالات، يعرض المصرف على المعاقَب أن يعطيه أمواله على شكل «شيك مصرفي». لكن هذا «الشيك» لا يصلح سوى لوضعه في إطار وتعليقه على الحائط، لأن أي مصرف آخر سيرفض صرفه أو فتح حساب بواسطته!
رفض أحد المصارف قبول القسط الجامعي لابن احد المعاقَبين


البعض حالفه الحظ، لأنه كان متابعاً لملف العقوبات أو تربطه علاقة بأشخاص سبقوه إلى اللائحة، فاستدرك الأمر باتخاذ خطوات استباقية. أقفل غالبية حساباته وحسابات شركاته، ولم يترك في المصارف سوى الفتات. فيما آخرون ضاع جزء من أموالهم، واضطروا إلى إغلاق مؤسساتهم وتسريح موظفيها. يعاني بعضهم مع المصارف التي لا تقبل منهم أموالاً لتسديد قروض مؤسساتهم، وترفض في الوقت عينه تحرير العقارات التي وضعوها كضمانات للقروض. يروي أحد المدرَجين كيف مُنع أحد المحامين من تأسيس شركة وفتح حساب مصرفي لها، لمجرّد أنه كان الوكيل القانوني لإحدى الشركات التي أدرِجت على لائحة العقوبات! علماً أن التعميم الصادر من مصرف لبنان «يمنع التعرض لأي شخص لا يملك حق التوقيع في الشركات المعاقَبة، أو ليس لديه نسبة عالية من الأسهم فيها». يعني ذلك أن البنوك ترتجل إجراءات غير قانونية. من هنا، يخرج البعض بفكرة أن يلجأ المتضررون إلى مقاضاة البنوك والضغط من أجل إصدار قوانين في مجلس النواب تمنع إغلاق الحسابات بالليرة اللبنانية.

مصارف لبنانية شريكة...
ثمّة أمر مثير للاستغراب. المكتب الأميركي يستطيع أن يُدرج على لائحة العقوبات أيّ اسم يريده من دون أن يقدّم أيّ مبرّر أو مستند يثبت «تورط» ضحيته. حتى لو طلب محامي الضحية وثيقة ما، يُرفض الطلب. ببساطة، تستطيع الولايات المتحدة أن تختار من تُريد عشوائياً، وترميه بتهم جاهزة. من جهة، تريد واشنطن أن «تربّي» بيئة المقاومة (وبعض من هم خارجها أيضاً)، وتجعل من هذه الأسماء عبرة لكل من يفكّر في دعم المقاومة أو حتى تأييدها. ومن جهة أخرى، تُرسل محامين أميركيين (بينهم محامٍ من أصل عربي) لتفاوِض بعض «الأهداف»، عارضةً عليهم ما مفاده: «تعاونوا معنا، فلا نعاقبكم».
بعض المصارف اللبنانية شريكة في ما تقوم به الولايات المتحدة، فتراها تقدّم أكثر مما تريده الإدارة الأميركية، وتذهب بعيداً في اتخاذ إجراءات قد لا تكون مطلوبة منها، وتتحمّل أكثر من مكتب الخزانة الأميركية مسؤولية «إعدام» مصالح الناس. من المفارقات البارزة، يستطيع أحد المدرَجين على لائحة العقوبات تحرير أمواله من أحد المصارف في دولة أجنبية إن كانت بعملة غير الدولار، ولو اضطره ذلك إلى توقيع تعهّد بدفع غرامة إذا تعرّض لها المصرف (أحد المعاقَبين حرّر أمواله في أوروبا، وهي بعشرات ملايين الدولارات). لكن المصارف في لبنان ترفض تسليم المعاقَبين أموالهم، ولو كانت بالليرة اللبنانية، علماً أن لا نصّ واضحاً يمنعها من ذلك. في دولة كروسيا، يحاسَب أي مصرف أو يُسجن صاحب المصرف إذا طبّق أو التزم العقوبات الأميركية على أيّ مواطن روسي أو شركة روسية، غيرَ أن الحال مع القطاع المصرفي في لبنان مختلفة كلياً.
صحيح أن مجلس النواب أجاز لهيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان طلب رفع السرية المصرفية عن بعض الحسابات فيما لو تبين أنها تنطوي على تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، لكن الهيئة نفسها مُتهمة من بعض المعاقَبين بالذهاب بعيداً في صلاحياتها لاسترضاء الأميركيين. ففيما يُلزم القانون مديري المصارف ومستخدميها بكتمان السر المصرفي كتماناً مطلقاً لمصلحة زبائن المصرف، وعدم إفشاء أي معلومة عن المعطيات المتعلقة بهم، تحولت هذه الهيئة إلى ما يشبه جهازاً لجمع المعلومات تتولى تقديمها إلى مكتب الخزانة الأميركية. وهي لا تكتفي بالإفصاح عن أسماء الزبائن وأموالهم (إذا طُلب منها اسم معين)، بل تتكفل بأكثر مما هو مطلوب منها، فتتوسع تقاريرها لتشمل عائلات هؤلاء وكل من تربطهم به علاقة عمل!



الكونغرس يشرّع للبنان!
عام 2015، أقرّ مجلس النواب قانون مكافحة الإرهاب وتبييض الأموال (رقم 44/2015)، وفيه حوالى 20 جريمة تدخل في إطار هذا العنوان. وقد جاء إقرار هذا القانون بعد تعديلات جرت عليه (كان قد أقرّ للمرة الأولى عام 2001)، نتيجة مطالبات غربية بذلك. هذا القانون يختلف كلياً عن قانون العقوبات على حزب الله الذي أقرّه الكونغرس الأميركي. وفقَ أي قانون تعمل المصارف اللبنانية لمعاقبة الأشخاص المدرجين على لائحة «أوفاك»؟ القرار الأساسي الرقم 12253 الصادر عن مصرف لبنان يوم 3 أيار 2016، يُلزم المصارف اللبنانية «بتنفيذ عملياتها بما يتناسب مع مضمون القانون الأميركي الصادر بتاريخ 18/12/2015 ومضمون الأنظمة التطبيقية المصدرة بالاستناد إليه». والقانون الأميركي المذكور ينص، بحسب تعميم مصرف لبنان، على «وجوب اتخاذ التدابير التي تحول دون تعامل «حزب الله» مع أو من خلال المؤسسات المالية الأجنبية وغيرها من المؤسسات». واللافت أن مصرف لبنان وضع القانون الاميركي في إطار «البناءات» التي بنى عليها قراره، إلى جانب قوانين لبنانية وقرارات وتعاميم صادرة عنه وعن المجلس المركزي لمصرف لبنان. وربما تكون هذه سابقة، لجهة التعامل مع الكونغرس الاميركي بصفته سلطة تشريع في لبنان، ما يعني عملياً معاقبة اللبنانيين والرعايا الموجودين على الأراضي اللبنانية، في حال مخالفتهم لقانون أصدرته سلطة لا يرى فيها الدستور اللبناني ولا القوانين المرعية الإجراء سلطة تشريع.
تقول مصادر نيابية على صلة بالقطاع المصرفي ومطلعة على الملف إن «الإجراءات التي تتخذها المصارف تأتي حرصاً على عدم إغلاق حسابات لها في البنوك الأميركية التي تتعامل معها كمصارف مراسلة. فالبنك الأميركي حكماً سيتعرض لعقوبة في حال ثبت تعامله مع بنك لبناني يفتح حسابات لأشخاص مدرجين على اللائحة».
وهل ينسحب ذلك على مصادرة الأموال؟ تؤكد المصادر أن «لا قانون في لبنان يسمح بمصادرة الأموال، لا بالليرة اللبنانية ولا حتى بالدولار الأميركي»، مشيرة إلى أن «هذا النقاش يسبب اليوم مشكلة بين هيئة التحقيق الخاصة في المصرف المركزي والجانب الأميركي»، لأن «الخزانة الأميركية تضغط من أجل مصادرة الأموال غير أن المصارف تؤكد أن لا قانون في لبنان يسمح لها بذلك». لكن هذا الأمر يحصل، وهو ما اعتبرته المصادر «غير منطقي»، معتبرة أن «بإمكان الأشخاص الذين صودرت أموالهم أن يرفعوا دعاوى على المصارف»، مشيرة الى أن «البعض رفع دعوى على الخزانة الأميركية وربحها فشطب اسمه عن اللائحة».
لكن رغم التجاوزات التي تقوم بها المصارف لم تقدم الدولة على إصدار قوانين تضع لها ضوابط معينة، وهذا أمر «لن نشهده». فمجلس النواب، على سبيل المثال، لا يستطيع أن يصدر أي تشريع يمنع المصرف من مصادرة الأموال، لأن «الظرف ليسَ مناسباً للدخول في تحدّ كبير مع الخزانة الأميركية»، وفق ما تقول المصادر!