من مكتب وزير الاتصالات محمد شقير، صدر قرار شراء «مبنى تاتش» في منطقة وسط بيروت («سوليدير»)، قبل أن يُرسل إلى شركة «تاتش». اجتمع مجلس إدارة الأخيرة، ليُقرّ الموافقة على تنفيذ القرار، متجاوزاً أنّ كلّ خطوة «لا تندرج ضمن المهمات الروتينية للشركة، تستوجب انعقاد جمعية عمومية للبتّ بها، ما يُعرّض الموافقة على قرار الشراء للطعن، من قبل المُساهمين المُتضررين»، بحسب عاملين في القطاع. وُقِّع العقد بين «تاتش»، بوصفها الشركة المُشغلة لشبكة الـ«ميك 2» التي تملكها الدولة، من جهة، وبين المالك (العلني) للعقار، نبيل كرم، من جهة أخرى. الدفعة الأولى من ثمن المبنى البالغة 25 مليون دولار (قيمة الصفقة هي 75 مليون دولار)، دُفعت من الأموال العامة الموضوعة في عهدة «تاتش»، قبل أن تُحولها إلى حساب المديرية العامة للاستثمار والصيانة في وزارة الاتصالات، ما يعني اعتبارها «قانونياً» غير خاضعة للرقابة، كما دأبت العادة على التعامل مع أموال الخلوي. أخذ الموضوع مدىً من النقاش، مُثيراً علامات استفهام عدّة، بسبب قرار وزارة الاتصالات استملاك مبنى، قيمته باهظة، فيما قرّر مجلس النواب اعتماد موازنة تقشفية. الاعتراض على الصفقة طبيعي، حتى لدى من يدعو إلى أن تزيد الدولة من استملاكاتها والمباني التابعة لها... بشرط أن تُنشَأ فوق عقارات تابعة لها، تخفيفاً لتكاليف البناء. لكنّ «المستغرب» أن تتحول صفقة المبنى إلى «مشكلة طارئة» لدى النواب والوزراء، وجميع الرسميين الذين تحركوا في الأيام الماضية. فعلى الرغم من «وقاحة» الخطوة، ولا سيّما إذا ثبت أنّ معنيين في تشغيل شبكتَي الخلوي هم من المالكين للمبنى، إلا أنّها ليست «اكتشافاً»، بل تبقى فصلاً من مسارٍ قديم يتعلق بكلّ الإنفاق في قطاع الخلوي الذي يجري من خارج الموازنة، ومن إيرادات الاتصالات قبل تحويلها إلى المالية العامة، من دون أن يعترض عليه أحدٌ، أو يطلب تصحيحه يوماً. فشراء مبنى لا يُقارَن (لجهة الهدر) بعقود الرعاية التي تقدّمها الشركتان المُشغلتان لقطاع الخلوي إلى جمعيات وأندية ومهرجانات... ولا باستعمال أموال الخلوي لتمويل نقل مباريات كأس العالم في كرة القدم، ولا يختلف عن شراء محطات الجيل الرابع وغيرها من النفقات التشغيلية والاستثمارية (وصلت النفقات التشغيلية والاستثمارية في شركتي الخلوي العام الماضي إلى نحو 660 مليون دولار!). الفكرة نفسها، وهي استفادة المسؤولين في السلطة السياسية، وشركاؤهم في القطاع الخاص، من «الوضع الشاذ» لقطاع الخلوي، والشركتين المُشغلتين له، لتشريع باب للإنفاق بلا رقيب. انطلاقاً من هنا، يُطرح السؤال عن جدوى خطوة وزير المال علي حسن خليل، في طلب وقف العمل بعقد شراء المبنى. تردّ مصادر مالية بأنّ بُعد قرار وزير المال «سياسي وشعبوي. فعملياً، لا يُمكن اعتبار أحد معنيّاً، سوى الأجهزة الرقابية، لأنّ مصدر الاعتمادات ليس وزارة المال، ولا وزارة الاتصالات. ومن الواضح، أنّ خطوة خليل، غير مُرتكزة على أي أساس صلب، من شأنه أن يُحقّق نتيجة ما، لغياب الأداة التنفيذية لديه». ولكن، بالنسبة إلى عاملين في «الاتصالات»، فإنّ الدولة تملك شبكتَي الخلوي، لذلك يُفترض أن تندرج ضمن الموازنة كلّ المؤسسات التابعة لها، «وحتى لو تذرع أحد ما بثغرة قانونية لتبرير المخالفات، يبقى وزير الاتصالات مسؤولاً، سياسياً ومعنوياً وقانونياً». بدوره، يرى المدير السابق للمحاسبة في وزارة المال، والنقيب السابق لخبراء المحاسبة المجازين أمين صالح، أنّه يجب توضيح «من هما طرفا العقد. وزارة الاتصالات والبائع، أم الشركتان المُشغلتان للقطاع والبائع؟». الاحتمال الأول، يُحتم أن ينطبق على الصفقة أحكام الموازنة العامة وقانون المحاسبة العمومية وديوان المحاسبة وعقد النفقة. أما الاحتمال الثاني، «فيعني أن المال سُحب من أرباح الشركة. وبكل الأحوال هذا مال عام، يحق لوزارة المال أن تطلب توضيحات حوله. أما إذا كان مالاً خاصاً، فلتُقدم تصاريح بذلك».
يجري التذرع بثغرة قانونية لتبرير المخالفة، ولكن يبقى الوزير مسؤولاً سياسياً ومعنوياً وقانونياً


قصة نفقات الخلوي تعود إلى الـ2002، يوم قرّرت حكومة الرئيس الراحل رفيق الحريري استرداد قطاع الخلوي، من شركتَي «سيليس» و«ليبان سيل»، وأنشأت بدلاً منهما شركتَي «ميك 1» و«ميك 2». كان يُفترض أن تخضع الشركتان الجديدتان المملوكتان من الدولة، للقوانين الحاكمة لمؤسسات القطاع العام، لكن بقي التعامل القانوني معهما كما لو أنهما من شركات القطاع الخاص، تخضعان لقانون التجارة، واعتُبرتا شركتين ماليتين، تمتلكان الشبكة، حتى لا تُخضَعا للرقابة المسبقة. هذه «الثغرة»، أكسبت وزراء الاتصالات صلاحيات وهمية. تعديل عقد تشغيل الخلوي، في عهد الوزير السابق نقولا الصحناوي، الذي جعل كلّ النفقات التشغيلية والاستثمارية من صلاحيات الوزير، برّر لشقير الطلب من «تاتش»، شراء المبنى في «سوليدير»، وحجته أنّ أموال الخلوي غير خاضعة لقانون الموازنة العامة أو القوانين الرقابية.
تفتح هذه النقطة النقاش في موازنة وزارة الاتصالات المُلحقة بالموازنة العامة. يبدأ الوزير السابق شربل نحاس حديثه، من تعريف الموازنة الملحقة، بأنّها «تُعتمد مع الإدارات العامة التي لها صفة سياسية وتجارية، أي تُحصّل الإيرادات». الشغل التجاري لإدارة عامة مُعينة، في هذه الحالة هي وزارة الاتصالات، يستوجب بقاء الإيرادات معها لتأمين استمرار الخدمات التي تُوفرها، وما يبقى من الأموال يُحوَّل إلى المالية العامة. هذا هو الفرق مع الموازنة العادية للإدارات العامة، حيث تصرف بناءً على الاعتمادات التي تُمنح لها من المالية. لا يُلغي ذلك أنّ الموازنة الملحقة «تخضع لذات قوانين الرقابة». ويرى نحاس أنّ قرار إلغاء الموازنات الملحقة، في الـ2020، «ضرب غباء»، ليس فقط لأنّها أساسية لاستمرار تأمين الخدمات، ولكن أيضاً لأنّ المشكلة في قطاع الاتصالات تكمن في مكان آخر، لم يجرِ المسّ به. يتحدث الأمين العام لحركة «مواطنون ومواطنات في دولة»، عن مشكلتين: الأولى هي عقد الخلوي. «هل كان يحقّ لمجلس الوزراء أن يوافق على تعديل عقد الخلوي في الـ2012؟ الموافقة على عقد لا يُحدّد سقفاً للإنفاق التشغيلي جرم فظيع. تكون النتيجة بأنّ كلّ من وافق في الحكومة على العقد، شريك بما يحصل اليوم». فيُمكن شقير عندئذ «أن يتلطى بأنّ عقد الخلوي، لم يُحدد سقفاً للإنفاق، ويقول إنّ من قَبِل بعقد الإيجار عليه أن يفرح بعقد شراء يوفر على الدولة». لكن نحاس يوضح أنّ المصاريف التشغيلية تُبرّر أن تدير شركة ما القطاع، فيما النفقات الاستثمارية هي مشتريات للدولة تنطبق عليها الآليات العامة نفسها. يقود ذلك إلى وجود «تصرّف غير شرعي بالمال العام». ولكن ما هي آلية التنفيذ التي تملكها وزارة المال لوقف تنفيذ قرار لوزير الاتصالات؟ «تحطّن بالحبس»، يجيب نحاس. أما المشكلة الثانية في «الاتصالات»، فهي هيئة أوجيرو، «هذا الكيان العجيب الذي لا يُفترض أن يكون موجوداً، ولا يجب أن يحصل على إيرادات. لكن وزارة الاتصالات تُحوّل لأوجيرو قرابة 100 مليون دولار، من دون مسوغ قانوني، ما يجعل هذه الأموال خارج أي رقابة». سَدّ هاتين الثغرتين هو الأساس في معالجة وضع «الاتصالات»، بالنسبة إلى نحاس.