وصل القاضي جان فهد إلى موقع رئاسة مجلس القضاء الأعلى، قبل سبع سنوات، نتيجة تسوية سياسيّة. رحل عن الموقع، قبل يومين، نتيجة تسوية أخرى. هكذا يُمكن تلخيص واقعة «خلع» فهد مِن الموقع الذي يُمكن وصفه بـ«قاضي القضاة». خطوة لا تحصل دائماً. عادة، لا أحد يَمسّ بـ«كبار القضاة» في الظاهر. طبعاً، يُمكن الوقوف كثيراً عند تجربة فهد، ما لها وما عليها، حتّى وإن مالت الكفّة إلى ما عليها، إلا أنّ قرار إزالته، أقلّه في الشكل، بدا مُهيناً للموقع أكثر مما هو للشخص. بعض الحقوقيين يرون أن في قرار تعيين القضاة مِن قبل السلطة التنفيذيّة، وخاصّة على الطريقة اللبنانيّة، إهانة، بصرف النظر عن الأسماء، فكيف إن لحقها «خلع» بعد سنوات. المبدأ القانوني الحالي ينصّ على عدم جواز نقل القاضي مِن موقعه من دون رضاه قبل انتهاء ولايته، وهذا يسري أيضاً على أكثرية أعضاء مجلس القضاء الأعلى نفسه، إلا أنّه لا يسري على رئيس المجلس، ومثله النائب العام لدى محكمة التمييز. يستغرب قانونيون هذا الاستثناء مِن «روح القانون» في لبنان. يرون أنّ المبدأ لا بدّ أن يسري على جميع القضاة، لأن الغاية مِن التشريع واحدة، وهي سحب القدرة مِن الحكومة على ابتزاز القاضي في قراراته السابقة واللاحقة. يُقال إن هذا اللغط يأتي نتيجة سوء ترجمة لدستور الجمهورية الفرنسيّة الثالثة، الذي اقتبس مِنه لبنان، وهذه مسألة تحتاج إلى تعديل، وبالفعل يرد هذا في القانون المقترح حالياً لاستقلاليّة السلطة القضائيّة. كلّ هذا كلام نظري، يبقى بلا معنى في ظلّ الصيغة السياسيّة الواقعيّة، الطائفيّة ــــ العائليّة ــــ المناطقيّة التي تحكم لبنان.عندما وصل القاضي فهد إلى موقع رئاسة مجلس القضاء الأعلى، كان الموقع شاغراً لمدّة طويلة، ومردّ ذلك كان الخلاف السياسي بين رئيس الجمهوريّة السابق ميشال سليمان ورئيس الكتلة النيابيّة المسيحيّة الأكبر آنذاك، ميشال عون. الأوّل كان يُريد للقاضية أليس شبطيني أن تفوز بالموقع (أصبحت لاحقاً وزيرة)، فيما كان عون يُسمّي القاضي طنّوس مشلب. ظلّ الخلاف قائماً لنحو سنتين، وبالتالي الشغور، إلى أن جرت التسوية على أن يتبوأ القاضي جان فهد المنصب. هو المنصب القضائي الأرفع «المطوّب» (عُرفاً) للموارنة. مَن يأتي بتسوية، عليه أن يتوقّع، في أي لحظة، أن يُغادر أيضاً بتسوية. هذا ما حصل. كم يُشبه فهد هنا ميشال سليمان، رئيس التسوية إيّاها؟ يُشبهه في أشياء أخرى أيضاً. عندما علم القاضي، قبل مدّة وجيزة، أنه يقضي آخر أيّامه في منصبه، فكّر ربما بالاستقالة، لكن على ما يبدو حصل «شيء ما» حال دون ذلك. البعض توقّع أن يُبادر الآن، بعد قرار الخلع، أن يفعلها، مراعاة للكبرياء وما شاكل، وذلك على غرار ما فعل رئيس مجلس شورى الدولة السابق القاضي شكري صادر.
لن يتقدّم القاضي فهد باستقالته، بل سيُتابع عمله ولو في موقع أدنى

لن يفعلها فهد، هذا ما جزمت به لـ«الأخبار» مصادر مقرّبة منه، مشيرة إلى أنّه سيبقى قاضياً، ولو في موقع أدنى مما كان عليه، إلى حين تقاعده بعد سنوات قليلة. حاول فهد خلال السنوات الماضية أن يُرضي مختلف الجهات السياسيّة. لكن يحصل، أحياناً، أنّ من يُحاول إرضاء الجميع يخسر الجميع. يكون هذا أكثر في ظلّ عدم تخندق الشخص مع طرف سياسي قوي. لن يُدافع عنه أحد. قديماً، كان فهد في الظاهر محسوباً على آل المرّ، هم الذين سعوا بقوة لتعيينه في منصب مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكريّة، ولاحقاً «قاتلوا» مِن أجل عدم نقله مِن هناك... لكن أين آل المرّ اليوم في السياسة؟ تبدّلت موازين القوى، ومَن تتبخّر جهته السياسيّة في لبنان، ولو كان قاضياً، يتبخّر معها. هذا هو الدرس الذي يؤخذ مِما حصل. يوم أمس، شهدت مستديرة عشقوت، وهي المنطقة التي ينتمي إليها فهد، تمزيقاً وحرقاً لصور رئيس مجلس القضاء الأعلى الجديد، القاضي سهيل عبّود. هل هذه العادة، أي رفع صور الموظّفين في مواقع جديدة في السلطة، موجودة في بلد آخر غير لبنان؟ هي تعبير مِن أهل البلدة، القرية ولو كانت زقاقاً، عن فرحة بكونها أصبحت «واصلة»، وأنّ الكثير مِن معاملاتها سوف تُحلّ بلا حاجة إلى «واسطة» مِن الخارج. أحد مِن القبيلة وقد نفذ إلى موقع القرار، هكذا.
ربّما ليس لفهد اليوم الكثير مِن المحبّين بين السياسيين، ولهذا نشهد صمتاً، مِن الجميع، حيال ما حصل. هذا مفهوم، إنّما على الجميع أن يتذكّروا أنّ ما جرى، وما قبل به الجميع، قد يتكرّر في الشكل لاحقاً، إنّما مع شخص آخر يُحبّونه، محسوب عليهم، وعندها لن يكون لهم أن يعترضوا على كرامات وشكليّات ومقامات... وما إلى ذلك مِن «كليشيهات» لبنانيّة مملّة.