بخلاف ما فعل أثناء مناقشة موازنة 2019، حين وزّع مجموعة من الاقتراحات لتعديلها، بعدما شارفت النقاشات على الانتهاء، لم يتأخر الوزير جبران باسيل في تقديم اقتراحاته المتعلقة بمشروع موازنة 2020. ما إن انطلقت عجلة مناقشة الموازنة، حيث قدّم وزير المالية تقريره في مجلس الوزراء، شارحاً فذلكتها والخلفيات والتوجهات، حتى بادر باسيل إلى توزيع ما سمّاه «ورقة مالية اقتصادية إنقاذية»، مجموعة من الاقتراحات التي تهدف إلى «إنقاذ لبنان من الانهيار الاقتصادي والمالي المحتّم ما لم يجرِ اعتماد معظمها».يقول باسيل، في مؤتمره الصحافي الذي أعلن فيه الورقة إن الهدف منها هو «القول للمواطنين إن الحكومة تستأهل الثقة حتى تصلح الاقتصاد». لكن سريعاً يتبين أن الإصلاح المنشود لا يمرّ، بحسب الورقة، إلا عبر إجراءات قاسية على المواطنين أنفسهم. فقد حمّل باسيل هؤلاء مسؤولية العجز، ليحمّلهم بالتالي مسؤولية الخروج منه. لكنه هذه المرة يملك الدليل. لقد اكتشف وزير الخارجية أن أموال سلسلة الرتب والرواتب قد صرفت على السياحة في تركيا ومصر واليونان وقبرص. بحسب باسيل، فإن اللبنانيين ينفقون على السياحة الخارجية نحو 4 مليارات دولار، وهذا رقم كبير حتماً، لكن حلّه لا يكون بزيادة الرسم على تذكرة السفر أو تخفيض سعرها إلى لبنان، أو بطرح عنوان فضفاض، كتشجيع السياحة الداخلية. السياحة الداخلية لا يُمكن أن تتعزز في ظل الأسعار التي تزيد على تكاليف السفر إلى دول أخرى، ولا تتعزز إذا لم يجد هو وغيره من المسؤولين حلولاً لأزمات السير والبيئة وسلامة الغذاء...
اللافت أن زيادة الرسم على تذاكر السفر كان بنداً من البنود التي ألغتها لجنة المال والموازنة من مشروع موازنة 2019. لكن هذه الحالة تتكرر مراراً في ورقة باسيل. بعض الإجراءات المقترحة تُشكّل انقلاباً على تعديلات لجنة المال على مشروع موازنة 2019، التي فشل ثنائي باسيل - سعد الحريري في نسفها في الهيئة العامة.
من الإجراءات الرئيسية التي ألغتها لجنة المال، كان إخضاع الشركات التي يبلغ رقم أعمالها خمسين مليون ليرة (بدلاً من 100 مليون ليرة) للضريبة على القيمة المضافة، لكن باسيل لا يكتفي بإعادة هذا البند، الذي رُفض لتأثيره السلبي بأصحاب الأعمال الصغيرة، بل ذهب إلى اقتراح إخضاع كل الشركات التي يقلّ رقم أعمالها عن خمسين مليون لرسم مقطوع.
مسألة إخضاع المواد المستوردة للرسوم كانت قد شهدت نقاشاً كبيراً في لجنة المال كما في الهيئة العامة أيضاً. فبعدما كانت الحكومة قد أقرّت إخضاع كل المواد لرسم 2 في المئة، رفضت لجنة المال تعميم الرسم بما يحوله إلى ضريبة استهلاك مقنّعة. في الهيئة العامة، كان الاقتراح بإخضاع كل المواد الخاضعة للضريبة على القيمة المضافة لهذا الرسم، قبل أن يرسو الاتفاق على استثناء المواد الأولية التي تدخل في الصناعة والمعدات الصناعية والمحروقات من هذا الرسم.
في ورقته، يقترح باسيل ضم النفط إلى رسم الاستيراد مجدداً، معتبراً أنه يلغي الحاجة إلى فرض رسم مقطوع على صفيحة البنزين بقيمة 5000 ليرة. ببساطة يضع المواطنين، الذين يطلب ثقتهم، بين خيارين: إما القبول بوضع رسم على المحروقات، وإما تحمّل تبعات زيادة سعر البنزين، متجاهلاً أن النتيجة ستكون في الحالتين زيادة كل الأسعار.
الاعتراضات والتظاهرات أثناء مناقشة موازنة 2019 كانت كبيرة. والمتقاعدون كانوا في صميمها. فجأة، أخضعتهم الحكومة لضريبة الدخل، بالرغم من أن ما يتقاضونه ليس دخلاً، بل تعويض تراكم من الاقتطاعات التي طاولت رواتبهم خلال سنين في الخدمة. بالنتيجة، تغلب الأمر الواقع على القانون، وأخضعت المعاشات لضريبة 6 في المئة. حتى ذلك لم يكن كافياً لباسيل، فإذا به يقترح رفع المحسومات التقاعدية إلى 8.5 في المئة!
وبعد كل الرسوم والضرائب والإجراءات التي تطاول الجميع، يقترح باسيل العمل سريعاً على إقرار قانون النظام الضريبي بالاعتماد على الضريبة التصاعديّة الموحّدة على مجمل الدخل (جمع العائدات من الأرباح والفوائد والعقارات... وتكليفها ضريبة واحدة). يبدو ذلك بمثابة «اللهم إني بلغت»، فمن يرد إصلاح النظام الضريبي فعلاً، يمكنه أن يبدأ به فوراً، خاصة أن خطوة كهذه يمكن أن تؤمن عائدات تفوق كل العائدات المقترحة. ذلك ليس مهماً. الأهم أن باسيل قرر السير عكس التيار، واقتراح إجراء لم يكن ببال أحد. هو يدعو ببساطة إلى تحويل المعاش التقاعدي لكل موظفي القطاع العام الجدد إلى تعويض نهاية خدمة، بدلاً من المطالبة بالعكس، خاصة أن في مجلس النواب اقتراحات عديدة لحصول موظفي القطاع الخاص على معاشات تقاعد، بدلاً من نظام تعويض نهاية الخدمة الذي أثبت فشله.
يفاخر باسيل باقتراح فرض الضريبة على عاملات المنازل، بمعدل خمسين دولاراً شهرياً عن العاملة الأولى، و100 دولار عن الثانية و150 دولاراً عن الثالثة. يريد من فكرته هذه أن يحدّ من تسرب العملة الأجنبية إلى الخارج، وهو نظرياً يفرضها على رب العمل. لكنه يتناسى أن ضريبة كهذه ستتحول إلى عبء على العاملات أنفسهن، وهنّ الفئة الأضعف في هذه المعادلة. تنفيذ الاقتراح عملياً سيعني أن العاملة التي تتقاضى أجراً زهيداً يبدأ بـ150 دولاراً، عليها أن تدفع ثلث راتبها لقاء عملها في بلد الأرز. وهو حكماً لن يستطيع أن يضبط هذه العملية، تماماً كما يحصل عند شراء تذاكر السفر للعاملات. نظرياً، إن ثمن تذكرة سفر العاملة، على سبيل المثال، يكون على عاتق رب العمل، لكن عملياً يسعى كثر إلى اقتطاع ثمنها من راتب العاملة، المحكومة بنظام الكفالة.
اقتراح تعويض نهاية الخدمة بدل المعاش التقاعدي!


في ما خص خدمة الدين العام، يعيد باسيل تكرار نغمة اكتتاب المصارف بسندات الخزينة بفائدة منخفضة. ويشير إلى أنه يجب إنجاز اتفاق بين الحكومة اللبنانية والمصارف اللبنانية بمشاركة مصرف لبنان على قاعدة الشروط المسبقة، تنجز بموجبه الحكومة سلّة إصلاحات (على رأسها خطّة الكهرباء، ومكافحة التهرّب الضريبي والتهريب الجمركي، وتخفيض كلفة التقاعد)، مقابل اكتتاب المصارف بسندات خزينة بفوائد مخفّضة جداً؛ وتبيع الدولة حصتها في مؤسسة ضمان الودائع، على أن تستعمل واردات المبيع لخفض أساس الدين العام.
من الاقتراحات التي تهدف، بحسب باسيل، إلى تحويل الاقتصاد من الريع إلى الإنتاج، اقتراح يدعو إلى السماح للمستثمرين باستئجار عقارات البلديات والدولة بأسعار تشجيعيّة. كيفما يُقرأ هذ الاقتراح، يبقَ غامضاً. كيف يُمكن ربط مشكلة الاستثمار بالحصول على العقارات بأسعار مخفضّة؟ ماذا عن الفوائد وغياب أسواق التصريف والريوع المرتفعة...؟ أم أن المقصود زيادة عدد المطاعم والنوادي والمحالّ التجارية؟ ثم، هل يُعقل أن يُصار إلى تعميم فضيحة الأملاك البحرية على كل الأملاك العامة؟ إذا كانت سوليدير تستأجر المتر في المرفأ في السياحي بنحو 2500 ليرة سنوياً، على سبيل المثال، فهل من المفيد تعميم هذه التجربة على كل البلد؟ ثم كيف يمكن تطبيق خطوة كهذه في لبنان، ألن يستفيد منها حصراً الأصحاب والأقارب والنافذون؟ وكيف يمكن عندها التعامل مع فكرة أن الاستثمار في الأملاك العامة يُفترض أن يكون للمنفعة العامة؟