كان يُمكن الجلسة التشريعية أمس أن تكون بلا طعم ولا لون. لكن قبل دقائِق من رفعها، طُرح من خارج جدول أعمالها المؤلف من 19 بنداً، اقتراح قانون معجّل مكرّر يرمي إلى نقل اعتماد من فصل إلى فصل في موازنة وزارة الشؤون الاجتماعية. في العنوان، لا شيء يدعو إلى الانتباه. لكن في التفاصيل، فضيحة تضاف إلى سجلّ الفضائح التي اعتبرها وزير الشؤون ريشارد قيومجيان «إنجازاً» زفّه إلى اللبنانيين، لأن «المجلس وافَق على سحب مبلغ 35 مليار ليرة من المؤسسة العامة للإسكان ونقلها إلى مؤسسات الرعاية (الجمعيات)». «الإنجاز» هو في سحب أكثر من ربع المبلغ (غير الكافي أصلاً) المخصص لدعم قروض الإسكان لذوي الدخل المحدود والمتوسط الذين حصلوا على قروض، سقف الواحد منها 270 مليون ليرة.لم يكن أحد من النواب يعلم أن قانوناً كهذا سيُطرح في الجلسة، إذ إنه لم يُدرج على الجدول. بل وصلَ صباحاً بصفة معجّلة، علماً أن القواعد المعمول بها تقتضي إرساله قبلَ 48 ساعة. القانون الذي قدّمه النائب ياسين جابر رُمي في وجه النواب في الدقائق الأخيرة، وصُدّق في جوّ من الفوضى من دون الأخذ بالاعتبار تداعياته على المواطنين، وعلى مؤسسة الإسكان التي تؤكد مصادرها أن «هذا الاقتطاع سيؤثر سلباً بقدرة المؤسسة التي لن يكون باستطاعتها دفع الفوائد عن المقترضين، ما يعني أنه سيكون لزاماً على هؤلاء دفعها مباشرة». مع العلم أن إقرار القانون أمس يأتي في ظل وقف مصرف لبنان برامج دعم القروض، ما دفع مجلس النواب إلى فتح اعتماد بقيمة 100 مليار ليرة لمصلحة المؤسسة لدعم القروض السكنية «لذوي الدخل المحدود» لمدة سنة، بعدما كان الأمر منوطاً بالمصرف المركزي لفترة طويلة.
الغريب أن الموافقة على اقتطاع المبلغ من رصيد المؤسسة لمصلحة الجمعيات حصل بعدَ حملة انطلقت من مجلس النواب نفسه، أدّت إلى شيطنة عمل الجمعيات التي تحلّ محل الدولة في الكثير من التقديمات، واتهامها بإهدار عشرات مليارات الليرات من المال العام.
ماذا حصل عملياً؟ وضع المدافعون عن هذا القانون الفقراء في وجه الأكثر حاجة، وذهب بعض المدافعين إلى حدّ مطالبة الشباب «باستئجار الشقق بدلاً من شرائها»! أكثر من نائب معارض للقانون أكد أن «الاعتراض ليس على تمويل الجمعيات التي يحلّ بعضها محلّ الدولة، لكن المشكلة هي في غياب الرقابة على توزيع الأموال وتحديد الجمعيات التي ستستفيد منها، وهو ما يقرره الوزير نفسه». كذلك إن الاعتراض جاء على «اقتطاع هذا المبلغ من رصيد المؤسسة العامة للإسكان، أي تمويل فقراء على حساب فقراء آخرين، فيما كان بالإمكان تأمين المبلغ من مصادر أخرى».
انسحاب رئيس الحكومة من الجلسة اعتراضاً على مداخلات نواب «لبنان القوي»


لم يكُن هذا القانون هو الشاهد الوحيد على «تهريب» قوانين تتضمن بين سطورها هدراً للمال العام. فقد كان بالإمكان أيضاً أن يمُر مشروع قانون آخر يطلب الموافقة على اتفاقية قرض بين الجمهورية اللبنانية والصندوق الكويتي للمساهمة في تمويل مشروع توفير المياه لأغراض الشرب والري في منطقة الضنية، لولا مداخلة لعضو كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب حسن فضل الله، الذي كشف عن هدر بملايين الدولارات في المشروع. وأعاد التذكير بفضيحة السد (بريصا) الذي وقّع تمويله الصندوق السعودي للتنمية في 5 شباط 2001، ولم يبدأ العمل به رسمياً إلا في 1 تموز 2003، وحتى الآن لا تستفيد المنطقة من مياهه في مجال ريّ الأراضي الزراعية في موسم الجفاف، لأن الدراسات التي أجريت وكلفت أكثر من مليون دولار، لم تلحظ وجود عيوب كثيرة، أبرزها أن أرضيته لا تضبط المياه المتجمّعة فيه، إذ تتسرب منه إلى باطن الأرض سريعاً، ما جعل المبالغ التي صرفت لبنائه تبدو كأنها رميت في البحر. وكان المجلس سيوافق على قرض بقيمة 8 ملايين دولار لمعالجة أرضية البحيرة، من دون محاسبة المسؤولين أو المتعهدين الذين أشرفوا على المشروع. اعتراض فضل الله ردت عليه وزيرة الطاقة ندى البستاني، بأن «مجلس الوزراء لم يوافق بسرعة على مشروع القانون، وطبيعة الأرض لم تكن معروفة قبل الأشغال، والتقرير الذي وضعه استشاري هكذا يقول». وسألها بعض النواب عمّا إذا كان الاستشاري الجديد الذي اقترح معالجة أرضية البحيرة بنحو 8 ملايين دولار هو نفسه الاستشاري الذي وضع سابقاً خطط إقامة السد، فأجابت بأنها لا تعرف. هنا تدخل رئيس الحكومة سعد الحريري معتبراً أن «المشروع مهم للضنية، ويجب أن يستكمل». وكان الحريري قد طلب استرداد مشروع قانون لتنفيذ تعهدات في جبل لبنان، ما أدى إلى اشتباك مع نواب تكتل «لبنان القوي»، دفع رئيس الحكومة إلى الانسحاب من الجلسة غاضباً. وما لبث الحريري أن عاد إلى الجلسة التي تحوّلت إلى جلسة نقاش في صلاحيات رئيس الحكومة، فردّ رئيس مجلس النواب نبيه بري بأن «استرداد مشاريع القوانين الآتية من الحكومة من صلاحيات رئيس الحكومة، وهو ممثل الحكومة».