قبل نحو 14 عاماً، أحال «اغتيال الحريري» القاضي (والوزير) عدنان عضّوم إلى التقاعد، فكان في جملة مَن أحالهم «الزلزال السياسي» إلى منازلهم وأماكن أخرى. هناك مَن يحلف أنّه، منذ ذلك الحين، لا يزال موقع النائب العام لدى محكمة التمييز شاغراً. يُحلَف بذلك، بين عدليين وحقوقيين وقانونيين مِن مختلف الميول السياسيّة، وذلك بالرغم مِن تعاقب ثلاثة قضاة على الموقع بعده. عضّوم في نظرهم آخر نائب عام تمييزي قويّ. كاد القاضي سعيد ميرزا أن يملأ الفراغ، ربّما بفعل «كراكتيره» الخاص، فضلاً عمّا وفّرته له «الحريريّة» مِن «حشوة دافعة» في القضاء... إلا أنّه، في النهاية، لم يُصبح عضّوماً. في السنوات الأخيرة، وتحديداً في السنة الحالية، تعرّض هذا الموقع الحسّاس في الدولة (وهو كذلك في كل دولة تقريباً)، لما يُشبه التهزيل. أصبح بإمكان مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكريّة، مثلاً، أن يتطاول عليه، ويرفض تعليماته، خلافاً للقانون الذي يمنحه بحسب النصّ «سلطة على جميع قضاة النيابة العامة بمن فيهم مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكريّة».أخيراً، جرى تعيين القاضي غسّان عويدات في الموقع «الشاغر». عويدات، كشخص، لم يُعرَف عنه ضعف في الشخصيّة. لديه «كراكتير» يسمح له بأن يكون «النائب العام القويّ». شغل لسنوات طوال موقع قاضي التحقيق الأوّل في بيروت، وكان «مالي الكرسي» كما يُقال، ولم يكن مِن النوع الذي يسهل القفز فوقه. إلى الآن، يبقى ينقصه الدفع السياسي لتكتمل عدّة القوّة. سيكون له ذلك. يوم أمس، أرسل رئيس الحكومة، سعد الحريري، إلى جميع الإدارات والمؤسسات العامّة والبلديّات تعميماً يحمل عنوان «حصريّة مراسلة النائب العام لدى محكمة التمييز». في التعميم، ذكّر الحريري بالنصّ القانوني (المادة 13 مِن قانون أصول المحاكمات الجزائيّة) الذي يتحدّث عن قوّة الموقع المذكور، لافتاً إلى «ضرورة الالتزام تصويباً للمسار القضائي واحتراماً لأصول التخاطب الإداري والقضائي». كان الحريري حريصاً على ذكر موقع مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكريّة، ومن يعاونه، فضلاً عن سائر قضاة النيابات العامة على اختلافها وتنوّعها (استئنافيّة ــــ ماليّة)، لناحية عدم مراسلتهم «إلا مِن خلال النائب العام لدى محكمة التمييز حصراً». يبدو أن الحريري أراد التمسّك بآخر المواقع «القويّة» المحسوبة عليه. القاضي الذي يشغل موقع مفوّض الحكومة لدى المحكمة العسكرية، حالياً، محسوب على رئيس الجمهوريّة، أمّا النائب العام المالي فمحسوب، إلى حدّ ما، على رئيس مجلس النوّاب، أمّا النائبة العامة الاستئنافيّة في جبل لبنان (صاحبة الذكر الرائج أخيراً) القاضية غادة عون، فهي «عونيّة الهوى» وأكثر. كأن الحريري يُريد أن يقول: مهلاً، ما زلت هنا. النائب العام لدى محكمة التمييز، القاضي الأقوى في البلاد، محسوب عليّ ولن أقبل بأن يُقفز فوقه.
تعميم الحريري يأتي بعد أربعة أيّام على تعميم صادر عن النائب العام، القاضي غسّان عويدات، أرسله إلى كل القضاة الذين سبق ذكرهم، يطلب فيه «تصحيح المسار القضائي لجهة التداخل والتضارب في الصلاحيات المستمر منذ سنين، واتخاذ الإجراءات اللازمة التي تحقق إشرافه على أعمال النيابة العامة، بما فيها النيابة العامة المالية والعسكرية». حصلت «الأخبار» على نصّ تعميم عويدات، وفيه الآتي: «نطلب إعلامنا دوريّاً عن سير العمل لديكم (...) ومراجعتنا بكلّ قضيّة ذات شأن عام يفرض البتّ فيها العمل بتوجيهات النائب العام التمييزي». يذهب عويدات في تعميمه على «كبار المدعين العامين» (وهو الآن أكبرهم)، فيطلب منهم: «مراجعتنا بكلّ قضيّة تُثار في الرأي العام (صحافة أو غيرها) ويُشار فيها إلى سوء ممارسة الأجهزة الأمنيّة أو القضاء لإعطاء التوجيهات اللازمة».
المقدمّة التي أوردها عويدات في بداية تعميمه، قبل أن يشرع في طلباته، تلخّص الكثير مِمّا يدور في رأسه: «لمّا كان قد شهدنا على مدى السنين بعض التراخي والتداخل والتضارب في الصلاحيات، مردها التسيّب في بعض الأحيان، والعادات المكتسبة والذهول عن القواعد في الأحيان الأخرى، فقد رأينا لزوم تصويب المسار القضائي والتخاطب الإداري بما يتماشى مع قواعد القانون».
موقع النائب العام لدى محكمة التمييز، بحسب القانون، ليس موقعاً عابراً. صاحبه هو القاضي الأقوى في البلاد، هو الموقع الذي لو فُعّل لأمكن تغيير الكثير. صحيح أنّه موقع، رغم صفته القضائيّة، إلا أنّ سمته السياسيّة تبقى غالبة... وهذا ليس في لبنان فقط. هو قاضي الدولة، يقوى بقوّتها وتقوى به، لكن في لبنان غالباً ما تُجيّر القوّة لمصلحة طرف سياسي ما. هذا الموقع اليوم يمثّل ما بقي مِن «عهد قويّ» للحريري داخل «العهد القوي»...