امام اللجنة النيابية للاتصالات التي قررت خوض ملف الهاتف الخليوي وارتكاباته، اكثر من امتحان كي تتجاوزه في سلام وجدوى. في حصيلة اجتماعاتها التي عقدتها منذ 15 ايار الماضي مع وزير الاتصالات محمد شقير والشركتين المشغلتين للهاتف الخليوي، وتجميعها ملفاً ضخماً عدّته مليئاً بارتكابات و«فظائع» دستورية وقانونية ومالية يتحملها شقير واسلافه، واخرى قانونية ومالية تتحملها الشركتان، قررت في آب المنصرم الطلب من رئيس المجلس نبيه برّي عرض الملف على الهيئة العمومية للبرلمان للتصويت على تأليف لجنة تحقيق نيابية، تطمح اللجنة الى تضمينها صلاحيات قضائية. بحسب العريضة فإن الارتكابات تلك «لم تشملها اية تحقيقات واجراءات قضائية بعد حصولها، رغم معرفة النيابات العامة بها، وبعضها تداولته علناً وسائل الاعلام».تبعاً لذلك رفعت الى برّي عريضة وقعها نواب ينتمون الى حزب الله وحركة امل والتيار الوطني الحر والقوات اللبنانية وكتلة الرئيس نجيب ميقاتي والتكتل الوطني الى نواب مستقلين، بينما امتنع عن الانضمام الى العريضة نواب يمثلون تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي وحزب الكتائب. يقتضي باللجنة انتظار التئام الهيئة العمومية في موعد يلي جلسة 17 تشرين الاول، المخصصة لتلاوة رئيس الجمهورية، كي يتسنى لها مباشرة مهماتها من خلال لجنة التحقيق.
مؤشرات اكثر من امتحان تنتظره اللجنة بدأت في الظهور من البارحة:
1 ـ رفض شقير وسلفه الوزير جمال الجراح المثول امام المدعي العام المالي القاضي علي ابراهيم، بينما مثل امامه الوزير الاسبق بطرس حرب الخميس واصدر امس بياناً شرح فيه موقفه وما ادلى به. وكان شقير استبق بيان رفض المثول البارحة باستنجاده بمجلس الوزراء الاربعاء، مخاطباً الرئيس ميشال عون، بزملائه الوزراء داعياً اياهم الى «التعاون معنا في مواجهة لجنة الاتصالات»، بعدما حذر من ان اللجنة تساهم في «تطفيش» الشركتين المشغلتين. بالتأكيد ليس بيان الرفض هذا سوى اول غيث تحرّك السقوف العالية لحماية القاعدين تحتها.
2 ـ ارتياب اللجنة في دعوة القاضي ابراهيم الوزيرين الحالي والسابق لسببين على الاقل: اولهما ان ليس للوزراء ان يمثلوا امامه ولا صلاحية له بذلك، ولا يرغمهما القانون على المثول. وثانيهما ان وضع الملف بين يديه يعطل جهود اللجنة لتأليف لجنة تحقيق نيابية ذات صلاحيات قضائية، بذريعة انتظار التحقيق القضائي المالي الذي قد يطول وربما يصار سياسياً الى ابطائه. اضف ان القضاء المالي لم يسبق له، منذ عام 2005 ثم في السنوات الاخيرة مع توافر المعلومات عن ارتكابات الشركتين المشغلتين ورعاتهما السياسيين الكبار، ان وضع يده على هذا الملف، ما يفسح في المجال امام شتى التكهنات باحتمال تجميده وتعويم الحمايات السياسية ذات السقوف العالية.
3 ـ مثول شقير والجراح وسواهما ملزم امام لجنة تحقيق نيابية، كما اي آخر يدعى الى المثول امامها كمسؤولي الشركتين المشغلتين الذين ـ تبعاً للجنة الاتصالات ـ ادلوا بمعلومات مذهلة عن الضلوع والتورط. لكن المثير للعجب ان الوزير الحالي طلب فتح ملف الهاتف الخليوي منذ عام 1992، مع ان هذا الجهاز دخل في الخدمة بدءاً من عام 1994، في ظل الرئيس رفيق الحريري رئيساً للحكومة، وكان القطاع المحدث حينذاك بين يدي شركتين مشغلتين تملكانه، ولم يصر الى امتلاك الدولة كلياً له وإبرامها منذ عام 2004 مع شركتين عقدي تشغيله لمصلحتها. تعني حجة شقير استطراداً إدخال مرحلة ما بعد عام 1992 - مذ دخل الرئيس الراحل الى السرايا للمرة الاولى - في دائرة الشبهات. في الغالب اتسمت حقبة التسعينات بالحريري الاب، وحلّ في حقيبة الاتصالات وزراء لصيقون به كمحمد غزيري (1992) والفضل شلق (1995) والحريري نفسه (1996)، وليس خافياً ان لمسؤولين سوريين نافذين معنيين بالملف اللبناني آنذاك حصة وازنة في المكاسب.
الصراع على الاتصالات بدأ بحرب داتا المعلومات وانتهى بالفساد والاهدار


بذلك تمسي شبهة شقير مفتوحة الشهية على الوزراء المتعاقبين منذ ما بعد اغتيال الحريري على التوالي: آلان طابوريان (2005) ومروان حمادة (2005) وجبران باسيل (2008) وشربل نحاس (2009) ونقولا صحناوي (2011) وبطرس حرب (2014) وانتهاء بالجراح (2016) وصولا الى الرجل نفسه (2019). مع ذلك، فإن عريضة لجنة الاتصالات طلبت مثول «الوزير الحالي ومَن سبقه»، قاصرة استجوابها على المرحلة التي تلت خصخصة الهاتف الخليوي عام 2004 بتخويل القطاع الخاص تشغيله لمصلحة الدولة. مذذاك، وفق ما تقوله اللجنة، بدأ «تخريب» القطاع تدريجاً، ثم اضحى فجاً وعلنياً مع صحناوي منذ عام 2011، قبل ان تتنامى «الفظائع» في السنوات التالية وتبلغ ذروة غير مسبوقة في السنوات الاخيرة. واجهتها العلنية والقانونية الوزير، من غير ان يكون وحده صاحب المكاسب وكلفة الاهدار والفساد.
منذ عام 2005 كان الصراع على حقيبة الاتصالات بدعوى ارتباطها المباشر بداتا المعلومات وعمل المحكمة الدولية في اغتيال الحريري الاب، وضرورة مدّ فرع المعلومات في قوى الامن الداخلي - هو الشريك الفعلي في التحقيق مع اللجنة الدولية - بتلك الداتا، فعهد بها تحالف قوى 14 آذار الى حمادة، وكانت الحقيبة في صلب التحريض على الوصول الى 7 ايار 2008. بعد اتفاق الدوحة نشأ الصراع بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر على الحقيبة للسبب العلني نفسه، وهو داتا المعلومات. ثم تقلب عليها التيار الوطني الحر مرتين على التوالي، قبل ان تمسي لاحقاً في عهدة تيار المستقبل مع الجراح وشقير اخيراً. الا ان رائحة الارتكابات في الحقيبة والمخالفات ومزاريب الاهدار والتلاعب والفساد راحت تتصاعد تدريجاً منذ وجود صحناوي على رأسها - مع انه لم يُدعَ الى القاضي ابراهيم - الى ان بلغت ما بلغته اخيراً في حوزة لجنة الاتصالات التي ابلغت الى رئيس البرلمان في عريضتها «ان الشركتين خالفتا بصورة واضحة شروط العقد بموافقة من الوزراء المتعاقبين وآخرهم الوزير الحالي محمد شقير (...) ما يبين وجود مخالفات دستورية وقانونية ومالية جسيمة».