«ما بتقدر أبدا تلغيني، بدك تسمعني وتحكيني»... تدندن إحدى الفتيات أغنية جوليا بطرس وهي تسير برفقة كلبها الصغير الأبيض إلى مكان تجمع بعض من رفاقها على جانب من أوتوستراد انطلياس أمس. الحياة، حتى بعد 24 ساعة من الاعتصام تبدو كفسحة أوسع وأكثر أملاً. الكل يضحكون هنا ويغنون... والكل يبدون في انتظار تطور ما، بمن فيهم عناصر الجيش المتأهبون في الناحية الأخرى من الطريق. تفكر رامونا لبعض الوقت قبيل الإجابة عمّا تريده حقاً اليوم. ما عاد الطلب بالمفرق ينفع: «نريد تحقيق كل مطالب الشعب. يفلوا ونحن منحققها بدونن وأولن رئيس الجمهورية». بالمناسبة رامونا أتت من بشري لتعتصم في انطلياس. بجانبها، يُرخي أحد المغتربين الآتين حديثاً الى لبنان بثقله على أحد بلوكات الباطون الفاصلة. يتردد في الحديث، ثم يطلب مساعدة للتعبير عمّا يريد إيصاله: «يمرقوا قانون رفع السرية المصرفية ويعترفوا بحقوق المواطن المدنية». العدد هنا يناهز الخمسين شخصاً وهو أشبه بتجمع عائلي لشدّة التآلف بين المعتصمين. يقف أحد الشبان مستغرباً حضور «غريب»، ليسير بنا إلى شاب على بعد أمتار منه طالباً منه أن يهتم بجريدة «الأخبار». يربط الأخير وجوده في الشارع بلائحة متكاملة: «إيقاف الفساد، استرجاع الأموال المنهوبة، إلغاء النظام الطائفي، كهرباء، طبابة، استقالة الحكومة»... و«استقالة رياض سلامة» يضيف أحد الرفاق الواقفين بقربه.لم يسبق لبلدات ساحل المتن الشمالي أن انتفضت منذ سنوات كثيرة. بدا الأمر يوم أمس أشبه بإعلان حظر تجول في الطرق الداخلية للتجمّع على نقاط الأوتوستراد الرئيسية. المصارف أُقفلت بقرار رسمي والمحال التجارية بقرار فردي. حركة السير شبه معدومة ويغيب عناصر الشرطة البلدية بشكل كامل. خلت أسواق ضبيه وانطلياس وجلّ الديب والزلقا والجديدة والدكوانة التي عادة ما تكون مكتظّة بناسها، إلا من بعض الدرّاجات النارية التي تعمد الى إشعال بعض الدواليب ومستوعبات النفايات لقطع الطرقات. حضر الطبل ليزفّ جسر جل الديب ولو متأخراً، على حدّ قول أحد المعتصمين هناك. وحضرت ثلاث سيارات محملة بمكبّرات صوت، تغني كلّ منها على سجيّتها. السواد المنبعث من الإطارات المشتعلة يلفّ السماء، وتعلو قبضات المعتصمين على الجسر بحركة واحدة منتظمة مع من يتجمّعون تحته. العدد هنا أكبر وموجّه أكثر. ينخفض صوت جوزف عطية، ليعلو صوت أحد الشباب «المترئسين» لقسم من الحشد: «من شهرين قلكن قائد المعارضة (ربما في إشارة إلى النائب سامي الجميل) فِلّوا أحسن ما تفلّوا شحط... فاسدين، زعران، سرقتوا المال العام». حضور النساء يوازي أو يفوق حضور الرجال عدداً في جل الديب، ومعظم هؤلاء من سكان البلدة. تقول إحداهن وهي تسير وزوجها وابنها وابنتها متماسكي الأيدي، إن فرصة الضغط لفرض تنازلات قد تكون ذهبية اليوم. أما ولداها، فيعتقدان أن مهرجاناً ما يحصل. في الساحة أيضاً خمسة شبان ينفثون النرجيلة بسلام وكأنهم في إحدى صالات السينما المفتوحة: «نريد استقالة الحكومة ورئيس الجمهورية. لو كان قادراً أن يقوم بالوضع لكنا معه».
على نهر الموت، «ولّعها» الشباب وكأنها ساحة حرب. يريدون إسقاط الدولة الطائفية بأحزابها: «كلن يعني كلن. هؤلاء الذين يقتاتون على دماء الحرب الأهلية». يبدو المكان مناسباً لتذكّر يوم من تلك الأيام الأليمة، حين أطلقت القوات اللبنانية النار على المتظاهرين في الموقع نفسه. «قديش العالم بعد بدا تنذلّ لتعمل ثورة»، يصرخ أحدهم. فيما زميله يتفرّغ لتسهيل مرور بعض السيارات مرتدياً قناع «فانديتا». تحلّ ساعات بعد الظهر، فتتفرق الحشود خصوصاً في سدّ البوشرية حيث لا وجود سوى لدراجات نارية تستعرض حركاتها على الطرقات وتضمن عدم إخماد النار في وسط الطريق. تسلك دراجة طريقها نحو مستديرة الصالومي لتعيد إغلاق أحد المنافذ نحو سنّ الفيل. يبدو الرجل مصرّاً على سدّها بدراجته. يفاوضه أحد عناصر القوى الأمنية. يرفض. يفاوضه آخر. يتمنى عليه الشاب أن يتركه لتنفيذ عمله. يصر العنصر الأمني. المشهد لطيف لكن الشاب يشعر بالتوتر، فيصرخ بالسيارات التي تحاول المرور: «مش عيب عليكن ما تنزلوا توقفوا حدّي لنسقط الحكومة».