هتافات ضد الحاكم، شتائمٌ وصدورٌ عارية. حجارةٌ تُرشق باتجاه القوى الأمنية. تكسيرٌ لكل ما يتكسّر. نارٌ مشتعلة، ودخانٌ يكتم الأنفاس. مواجهاتٌ بالأيدي والعصي أمام ظهورٌ أمنيٍّ مسلّح، وصولاً إلى إطلاق قنابل الغاز المسيّل للدموع نحو الحشود. المشهد مألوفٌ بالنسبة إلى جمهور كرة القدم في لبنان. كلّ هذا شهدته الملاعب في السنوات الأخيرة. الحديث ليس عن الحالة التي عاشتها الملاعب في فترة الوجود العسكري السوري. تلك أيامٌ أطلق فيها الرصاص الحي في الهواء، واقتحمت الآليات العسكرية أرض الملعب. تلك أيامٌ ولّت، وذاك جيلٌ يختلف عن الجيل الحالي. هذه أيام جيلٍ لم يعش الحرب الأهلية، ولم يُعاصر الوجود السوري. دخوله إلى الملعب لأول مرة ترافق مع حضور الآليات العسكرية في الحرم الرياضي وفصل الجمهور عن العشب الأخضر بالسياج الشائك. بعضه سمع، وردّد، هتافاتٍ طائفيةٍ وحزبية، وبعضه لم يفعل، بما أن هذه الظاهرة انكمشت في السنتين الأخيرتين. ما حصل في وسط بيروت خلال الليالي الثلاث الماضية، اختبره الجمهور الرياضي لسنوات. هو الشعب عينه أساساً، من الطبقة العاملة، الفقيرة.
«الشغب» يبدأ حين يُفرِغ أحد عناصر القوى الأمنية كبته على مشجع

«زُعران»، هو المصطلح الشائع، الذي يُطلق على «المشاغبين» في الملاعب. هؤلاء الذين يتواجهون مع القوى الأمنية، بعيداً عمّن يثيرون الشغب ويحاولون التطاول على اللاعبين والمشجعين. يُواجَهون بالكره، والنبذ من المجتمع الرياضي، لكن حقيقةً، هؤلاء، يتصرّفون هكذا بناءً على ردّ الفعل جراء ما تمارسه الأجهزة الأمنية التي لا تعرف إلا القمع، أساساً هي وجدت من أجل ذلك، إسكات الناس.
أول من أمس بقيت المظاهرة سلمية حتى أطلقت قنابل الغاز على الحشود. هكذا يولد الغضب، هكذا تبدأ المواجهة. كُسرت النوافذ وحُطمت الأبواب والتهمت النيران كل ما أُلقيَ عليها. ومقابل كل ردّ فعل، ردّ فعلٍ آخر. لا يختلف الأمر في الملاعب. «الشغب» يبدأ حين يُفرِغ أحد عناصر القوى الأمنية كبته على مشجعٍ، خطيئته النزول إلى أرض الملعب. الجمهور يحتضن الجميع، ولا يقبل بالأذى. أحياناً، يختلف سبب التكسير والتحطيم والمواجهة. أحياناً، ردّ الفعل من قِبل الجمهور يولد بسبب غياب الفعل من جانب القوى الأمنية، حين يتفرّجون على من يريد فعلاً تخريب الأجواء. حين لا يُحرّكون ساكناً، ويقبلون بالتخريب. والجمهور لا يحب المتفرّجين. الجمهور يُشجّع، يتفاعل، والصامت بينهم ليس محسوباً عليهم.


في الأيام الماضية هلل الشعب لعدم ظهور أعلامٍ حزبية إلى جانب العلم اللبناني. ألوان الأبيض والأحمر والأخضر طغت. لكنّ علمَي ناديي النجمة والأنصار تحديداً حضرا في كل الساحات. لوناهما من لون العلم اللبناني. أعلام أنديةٍ أخرى رُفعت بالأمس. الهتافات هي عينها. «هيلا هيلا هو...»، والشتيمة في آخر «المعزوفة». أمس شوهد مُكبّر الصوت عينه الذي يستخدمه جمهور النجمة. علم النادي لفّه، والصوت الطالع منه هو نفسه. اسم نائبٍ تبعه اسم زميلٍ له، وبعد كل اسمٍ مسبّة. الصوت والصورة عينهما في الشارع كما على المدرج. الوجوه تعرّفت إلى بعضها. المشجعون التقوا في الساحات، كما صادفوا اللاعبين أيضاً. قبل فترةٍ رفعوا لافتةً في ملعب مدينة كميل شمعون الرياضية، طالبوا فيها بالإعدام للعملاء، بعد توقيف العميل عامر الفاخوري. بعدها بأيام رفعوا لافتةً ثانية: «الشعب إذا جاع بياكل حكامه». ثم ثالثة: «الفقر سيف حاد، ارحموا جيوب العباد». هذه اللافتات حملها الألتراس من ناديي النجمة والأنصار. هؤلاء تعانقوا في الشارع، رفقة مشجعين من أندية أخرى. غطوا وجوههم كما يفعلون دائماً، يُنكرون ذاتهم من أجل القضية. تركوا بصمتهم على الحيطان أيضاً. هم مرّوا من هنا، وبقوا. تركهم زميلٌ بالأمس. حسين العطار ارتقى شهيداً في منطقة طريق المطار. «شهيد الثورة الأوّل»، هي العبارة التي لفّت مواقع التواصل الاجتماعي، مرافقةً صورة الشاب العشريني لافّاً علم النجمة على رأسه، واقفاً بين الجمهور على المدرجات، وخلفه الدخان. زفّه الجمهور، وغداً حين يعودون إلى الملاعب سيكون موجوداً معهم، بصورة، أو بكلمة، بدقيقة صمت.
الجمهور هو مُحرّك الثورات. مصر تشهد، وتونس أيضاً، وهتافات الجزائريين سُمعت في كل العالم العربي. لبنان على الطريق عينه. الجمهور يريد الفوز، لكن الخسارة لا توقفه أيضاً. يعود دائماً، ولا يغيب.