5000 عائلة لبنانية تُسيطر على الاقتصاد. 8% من الحسابات المصرفية يتركز فيها 85% من الودائع. 40% من القطاع المصرفي يملكها سياسيون أو أقارب لهم. احتكارات في مختلف القطاعات... يٌقدّم الأستاذ المُشارك في الاقتصاد في الجامعة الأميركية ــــ بيروت، الدكتور جاد شعبان هذه الأرقام، ليخلص إلى أنّ «الكتلة السياسية هي، بمعظمها، الكتلة نفسها المسيطرة على الاقتصاد. يحكم البلد كارتيل يُريد المحافظة على مصالحه الموجودة في القطاع المصرفي». وفي الوقت نفسه، المصارف والمصرف المركزي «يُقرضون الدولة». 63 مليار دولار، هي تقريباً قيمة القروض من البنك المركزي والمصارف للحكومة. إذا حُسمت ودائع القطاع العام والدين العام الذي يحمله مصرف لبنان والمؤسسات العامة والقروض المُيسّرة من الدول والمؤسسات الأجنبية، فسنتخلص من أكثر من نصف الدّين الحكومي (قرابة 46 مليار دولار). المبلغ المُتبقي، وهو قرابة 39 مليار دولار، فيتعيّن التفاوض مع المصارف لإيجاد حلّ لها. («الأخبار» عدد 18 شباط 2019). في موازنة الـ 2020، يُتوقّع أن تبلغ فوائد الدين العام نحو 6.1 مليارات دولار، أي ما نسبته 36% من مجمل النفقات و48.5% من الإيرادات. «خدمة الدين هي الفساد بحدّ ذاته. من غير المعقول أنّنا في نظام يُقرّر الحاكم (السياسي/ المصرفي) نسبة الفائدة التي يريد أن يدفعها لنفسه، خفضها لن يكون في مصلحته».
مع تباطؤ النمو الاقتصادي في لبنان، واستمرار الدين العام وخدمته في الارتفاع، هل بحثت السلطة السياسية مرّةً في ما إذا كان خفض الفائدة على الدين الحكومي قد يُشكّل حافزاً لنموّ الاقتصاد، بدل أن تستمر في تصوير مُجرّد التفكير به كما لو أنّه مسٌّ بذات إلهية؟ أزمة الدين العام، واقع خطيرٌ، وإرهاقها للاقتصاد المحلي جدّي، لا كما يُحاول المستفيدون من تضخّم كلفته تصويره كمُجرّد «تصويب إيديولوجي» على القطاع المصرفي والنظام الاقتصادي، مُحاولين تسخيف النقاش عبر اتهام مُحدثيهم بأنّهم «لا يفقهون بالاقتصاد». هؤلاء جزءٌ من شبكة المصالح المالية ــــ المصرفية ــــ السياسية، التي راكمت منذ التسعينيات أرباحاً خيالية، بسبب أسعار الفوائد العالية والتي أدّت إلى بلوغ الدين العام واحدة من المراتب الأولى عالمياً، نسبة إلى الناتج المحلي. نصف إيرادات الخزينة العامة تقريباً، تُدفع لسدّ فوائد الدين العام، الذي يبلغ وحده أكثر من 150% للناتج المحلي (القيمة السوقية للسلع والخدمات التي يتم إنتاجها محلياً). ورغم أنّ اقتطاع 1% فقط من الفائدة سيُخفض الإنفاق العام بقيمة 900 مليون دولار، إلا أنّ السلطة لا تزال تُكابر، مُركّزةً حصراً في البحث عن «حلولٍ» لسدّ العجز عبر التقشف في الإنفاق، فرض المزيد من الضرائب على الاستهلاك، زيادة الحسومات التقاعدية... إجراءات تُغذّي الانتفاضة الشعبية.
يقترح شعبان رفع الضرائب على الفوائد في المصارف إلى 15%


تحت ضغط التظاهرات وقطع الطرقات، قرّر رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري نقل كلفة الفائدة على الدين الحكومي من الموازنة العامة إلى ميزانية مصرف لبنان (خفض ما كان يجب أن تدفعه الحكومة كخدمة للدين العام من نحو 5500 مليار ليرة إلى 1000 مليار ليرة). وسيكون «المركزي» مُضطراً إلى طبع 4500 مليار ليرة تقريباً ليتمكن من تغطية الفارق. إجراء «المركزي» بطبع المزيد من الأموال يعني أنّنا أمام خطر التضخم، إذا لم يُحسَن ضبطه. أما المصارف، فلن تتنازل سوى عن 400 مليون دولار من أرباحها، ولمرّة واحدة فقط في 2020. إنّه الهروب إلى الأمام، وحماية فئة محدودة على حساب الشعب. «نحن لا نقوم بإصلاحات، بل بحماية مصالح خاصة. لماذا التقشف؟ لأنّهم لا يريدون أن يمسّوا ببند أساسي من الموازنة العامة»، يقول شعبان، مُستغرباً كيف أنّ المصارف التي تُقرض الدولة «حين تسمع بأنّها تريد أن تتقشف (أي أنها لا تملك المال)، تستمر في إقراضها من دون أي مُساءلة».
ما هو تأثير خدمة الدين العام على المواطنين؟ يُجيب شعبان بأنّها تؤدي إلى «تدني الخدمات العامة، فقدان المال لتأمين الحاجات الأساسية، رفع سعر الفوائد وعدم تمكّن المواطنين من الاستفادة من القروض، تجميد السيولة في الأسواق...». في اليابان، تبلغ نسبة الدين للناتج المحلي 220%، بحسب شعبان، «لكنّها توظَّف في خلق فرص عمل، تحديث البنية التحتية، وضع نظام تقاعد»، يعني أنّ الدول تستطيع أن تقترض «شرط أن تذهب لمشاريع تعود بفائدة».
طيب ما الحلّ لهذه الأزمة؟ حقّقت أكبر عشرة مصارف أرباحاً صافية العام الماضي «بلغت 2.7 مليار دولار. كلّ الشركات تخسر، إلا هم يراكمون الأرباح في وضع اقتصادي صعب. نحن مع قطاع مصرفي مُنتج، ولكن ليس مع قطاع مُتضخم بطريقة طُفيلية يسحب كلّ الأرباح بطريقة وهمية». لذلك، الحلّ المطروح هو إقناع الطبقة الحاكمة بأنّ «من مصلحتها القيام بهبوط غير سريع. يجب زيادة الضرائب على أرباح الفوائد، على أن تكون تصاعدية، مع إعادة جدولة لخدمة الدين بفائدة أدنى. مصلحة المصارف أن لا تُفلس الدولة». إعادة الجدولة قد تكون سهلة، لأنّ «الجزء الأكبر من الدين داخلي، يعني أنّ بإمكاننا التحرّر من التهديدات الخارجية. القطاع المصرفي راكم أرباحاً على الفوائد طيلة عشرين عاماً، من العدل الطلب منه المساهمة في تخفيف العجز، ثم يأتي دور عامة الشعب».
في محاضرةٍ له في «مركز توفيق طبّارة»، يتحدّث رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق عبد الحليم فضل الله عن البدء بحلّ الأزمة من «تنفيس الاقتصاد الريعي بخفض خدمة الدين العام، دون إلحاق الأذى بالمصارف والمصرف المركزي، وأنّ هذا الإجراء سيُعزّز نموّ الاقتصاد». ثقل فوائد الدين العام لم يعد يُحتمل، ولها «انعكاساتها الدائمة على نسب الفقر والبطالة واتجاهات توزيع الدخل والثروة»، كما ورد في دراسة «أزمة الدين العام في لبنان وحلولها»، لفضل الله. تطرح الدراسة حلّاً يتمثّل في ثلاثة مجالات: «إصلاح السياسات المالية، تصحيح السياسات التجارية وإصلاح النظام الضريبي الذي من دونه لا يمكن التغلب على المصاعب المالية والاقتصادية والاجتماعية التي نُعاني منها». يعتقد فضل الله أنّ الخيار الأمثل يقوم على «زيادة معدلات الاستثمار، وضبط الهدر، وإصلاح القوانين الضريبية وتمكين الفئات الهشّة من مواجهة احتمالات تفاقم الأزمة». وبرأيه أن خفض معدلات الفائدة هو «الوسيلة الأفضل لإعادة ربط مسار الدين العام بقاطرة الاقتصاد الحقيقي».