على المستوى الشخصي البحت، قد يكون أحد ألطف الأشخاص الذين عرفتهم خلال الأسبوعين الماضيين هو ذاك الكادر في حركة أمل الذي ذهبت للقائه في قريةٍ جنوبيّة - في اليوم الذي سبق استقالة الحريري. استقبلنا الرّجل بترحاب وجلسنا في مقهى يتبع لحديقةٍ عامّة أقامتها البلدية في وسط القرية (حاولوا أن تحزروا على اسم من سمّيت الحديقة). جئت لأنّي كنت أسمع بأن مناصري «أمل» في بعض القرى غاضبون للغاية، وأنّهم يحضّرون لوائح بأسماء بكلّ من شتم نبيه برّي وعائلته، ويهمسون في مجالسهم بأنّ حساباً سيأتي لهم «في ما بعد». أكّد الرّجل أن الجزء الأوّل من المقولة صحيح، هم بالفعل يسجّلون الأسماء والمواقف وينوون أن يحفظوها وألّا ينسوا، ولكنّه أصرّ على أنّهم، في الوقت ذاته، لن يقوموا بأذية أحد من هؤلاء. كلّ ما في الأمر، شرح لي الرجل مبتسماً، هو أنّهم سيقطعون مع نهج «الطيبة والسذاجة» التي كانت تحكم علاقتهم بمن حولهم، واستعدادهم الدائم لـ«تلبية أيّ طلبٍ وخدمة» بغضّ النظر عن هويّة السائل. يلمّح الى أنّ من حصل على مكاسب أو وظائف عبر «شبكة» الحركة، وأبدى موقفاً سلبيّاً خلال الأحداث، لا يجب أن يتوقّع استمرارها. للتدليل على سلوك «الطّيبة» هذا، شرح لي الكادر الحزبي كيف سارع قبل أيّامٍ الى أحد المخافر، متوسّطاً لإخراج شابٍّ كان قد اعتقل اثر التظاهرات الأولى في صور، واتّهم بالمشاركة في حرائق وتخريب. أمام عناصر المخفر، دافع الحزبي عن الشابّ تحت سرديّة أنّه يعرفه وأنّه بريء، تحمّس ونزل مع المتظاهرين الى المكان ولكنّه لم يشارك في التخريب، فلا سبب لاعتقاله والقسوة معه. فأراه الضابط عندها صورة أخذها الشاب المعتقل لنفسه في تلك الليلة، وهو يبتسم للـ«سيلفي» وخلفه تشتعل النيران.
(هيثم الموسوي)

الرّجل طويل ويرتدي بذّة رياضيّة، اخوته الأكبر سنّاً قاتلوا مع «أمل» خلال الحرب الأهلية وهو انضمّ الى حرس المجلس النيابي، ثمّ تقاعد باكراً وفرّ من بيروت ليستقرّ في قريته. من الصّعب أن تعرف من مظهره أنّه في أواخر الاربعينات، أو أنّه أكبر منّي في السنّ ولست أنا أكبر منه. «لا أحد هنا غير مسيّس»، يقول عن عائلات هذه القرى: هناك كتلة كبيرة من الناس تناصر «أمل»، وهناك كتلة كبيرة مع حزب الله، وهناك أقلية من شيوعيين ويسار ويسار سابق، ولا أحد بلا انتماء ورأي. يعبّر عن ارتياحه من أن الأمور هدأت، و«لن يحصل شيء من صيدا الى الناقورة» مهما جرى في باقي المناطق، وإن كانت لديه بعض المرارة بسبب أشخاصٍ في القرية ساعدهم في الماضي وخدمهم فـ«غدروا» بهم، وايضاً لأنّ شباب حزب الله أخذوا في الأيام الأولى مسافةً عنهم، مع شيءٍ من شماتة. اعترف بأنّه استخدم العنف ضدّ المتظاهرين في حالةٍ أو اثنتين في البداية، ولكنّه يصرّ على أنه كانت لذلك أسبابٌ وجيهة جدّاً، ولم يصل الأمر الى الأذى رغم «الاستفزاز». بل هو يشتكي من أنّه لم تتح له أصلاً فرصة حقيقيّة للالتحام مع أحد. في المرّة الأولى، حين سمع بأنّ صورة لموسى الصّدر تمّ اتلافها في صور، وهرع غاضباً الى المكان، وجد أن الفاعلين ينتظرونه وقد بدأوا بالصّراخ من بعيد بأنهم يستسلمون وأنهم اسفين ويعتذرون. في المرّة الثانية كان متظاهرون يغلقون طريقاً في المدينة، قال إن الجّيش كان يقف متفرّجاً وحين طلب من العناصر أن يفتحوا الطريق ردّوا بأن «لا علاقة لنا»، فقال للجنود «طالما أن لا علاقة لكم فتنحّوا جانباً اذاً»، ففعلوا. في نهاية الجّلسة أصرّ على أن يستبقينا للعشاء ولكنّنا اعتذرنا، فودّعنا ولمّح الى أنّ جسر «الرينغ» في وسط بيروت قد «يفتح» في الغد، ونصحنا - إن لم يتوقّف الاقفال والاستعصاء - بأن لا نتجوّل بعيداً عن بيوتنا يوم الأربعاء.

الواقع يبدو أقرب في المرآة
بسبب تراثٍ من الحروب والهزّات وانعدام الاستقرار، رافق «الوطن اللبناني» منذ انشائه، هناك قاعدة اجتماعية غير مكتوبة بين اللبنانيين تقول بعدم اظهار الخوف والفزع حين تتوتّر الأوضاع وتلوح احتمالات سيّئة، بل التظاهر بالثقة وأخذ الموضوع بخفّةٍ أو بجبريّة. انت، من ناحية، لا تريد أن تكون الفرد المزعج الذي ينشر الذّعر من حوله ويدقّ باستمرارٍ ناقوس الموت، من ناحيةٍ ثانية فإنّ فزعك لن يغيّر شيئاً في ما سيأتي وثالثاً، ستكون لديك دائماً، وفي أي وقت، أسبابٌ متعدّدة لتوقّع الخراب، هي ظروفٌ ومخاوف وصدمات لو وجد المواطن الغربي الحريص نفسه فيها لجنّ (هذا لا يعني أنّنا لا نجنّ، العبرة هي أن لا تُظهر ذلك). ولكن، حين تبتعد عن الناس وتخلو الى نفسك، تجبرك غريزة البقاء على التفكير بما يجري وتمنعك من أخذه بخفّة. قبل استقالة الحريري بليلتين، وجدت نفسي أفكّر: «لحسن الحظّ أن ليس لدي أولاد». هذا كان سيغيّر كلّ شيء. تكلّمت مع أخي المغترب واقترحت أن يبدأ برسم سيناريو لسحب أهله المسنّين الى اوروبا، وابلغته بأن لدي مدخرات قد تكفي - في حال حدوث الاسوأ - لسنةٍ أو ما يقارب، وعليه بعد ذلك أن يفكّر بطريقةٍ لتمويل العائلة (والعائلة هنا تعني أنا، اذ لم يتبق غيري في البلد). لحسن الحظّ ايضاً، كنت قبل ستة أشهر اجتمعت مع صديق، قد لا يكفي المال الذي نملكه سوية لشراء سيارة ولكن هذا هو نوع المال الذي تقلق عليه، وقرّرنا أن نضع موعداً لظهور الانهيار المالي. كنّا نعتبر أن الانهيار قد وقع بالفعل والسؤال هو عن متى ستبدأ ترجمته في السّوق وفي سعر العملة. قرّرنا أن أمامنا ثلاثة أشهر، وقبل نهاية المهلة بقليل، حوّلت ما لديّ من مالٍ الى دولارات وأخرجته من المصرف، حيث لا أبقي في حسابي أكثر من عشرين دولاراً (كنّا نريد في البداية أن نشتري الذّهب، ولكنّ سعره ارتفع بحدّة ما أن بدأت بالنظر في الموضوع، ولم يتوقف عن الارتفاع. هذه هي الاشارات التي تُفهمك، باكراً في الحياة، بأنك لن تصبح ثريّاً يوماً).
هذه هي الحسابات التي تقوم بها العائلات اللبنانيّة هذه الأيّام، وبخاصّة من لا يقبض راتباً بالدولار ولا تمويله خارجيٌّ ولا هو من الفئة التي تستفيد كلما عصفت الكروب ببلدهم. هو واقعٌ يتشاركه، بصمت، ملايين اللبنانيين، وهو اليوم أكثر ما يوحّدهم. فلنسمّه «واقع رقم 1» من أجل التسهيل. هناك ايضاً واقعٌ نراه في ساحات الاحتجاج وعلى الأرض، فليكن «واقع رقم 2». وهناك الصورة الاعلامية التي يتمّ تصنيعها عن هذا الحدث بأسره، «واقع رقم 3». لا يمكن التفكير في الحدث من غير التفريق بين هذه المستويات، وهي كلّها موجودة و«حقيقية»، ولكنّني في مثل هذه الأيام أقلل من مراقبة الاعلام ووسائل التواصل واركّز على البعدين الباقيين؛ هذا من ناحية لأنّ ما يحصل لك شخصياً وما تراه بعينيك أهمّ، ومن ناحيةٍ ثانية لأنّ الأصدقاء، حين يعيشون في «واقع رقم 3»، يصبحون مزعجين، ولن تقدر على التكلّم معهم أساساً من موقعك خارجه (المسألة، مرّة أخرى، تتعلّق بالإزعاج وليس بالسياسة، فتجد صديقة نزلت الى تظاهرتين بدأت تعطي الأوامر، وتطلب من النّاس الذين ظلّوا في بيوتهم أن يصمتوا ويغلقوا فاههم، وأخرى تفتخر بأنها تشارك في «التنمّر» على المخالفين ومضايقتهم - هذا حتى لا نتكلّم على جاهلٍ من خارج البلد يعيش في جوٍّ فاسد، وهو يزايد عليك في بلدك).
لا أريد أن ابدو مستخفّاً بالأمر، ولكن يجب أن تتذكروا أن هذه رابع أو خامس ثورة تمرّ عليّ في السنوات الماضية (منذ «ثورة الأرز») وكلّها يتم اعلانها وتطويبها من قبل الدوائر والأشخاص ذاتهم. والثورة والانتفاض على الأوضاع الاقتصادية ونظام النّهي هو ما يحتاجه البلد، ولكن حين ينضمّ فؤاد السنيورة الى القومة ضدّ «الاوليغارشيا»، ويقودها طلّاب الجامعات الأميركية، ويكون رياض سلامة هو الوحيد الذي يضمن موقعه حالياً، والحرب الطبقيّة والمشاعيّة يناقشها الفاسدون (الذين قاموا وقام أهلهم، حرفياً، بنهب البلد، أو اعتاشوا على خدمة هذه الفئات)، فأنت هكذا تعرف بأنّ الحقيقة في مكانٍ آخر. الحلّ، بالطبع، هو ليس في تكتيك «اليسار العربي» المعتاد («فلنقفز الى مشروع الأعداء، ونلحق نفسنا به، حتى نغيّره ونحرفه من داخله») بل هو في أن تفكّر لماذا لا يخاف من هذه الشعارات، بل يحملها، من يفترض به أن يكون هدفاً لها، وتبدأ بفهم الواقع من هنا.

احتمال الثّورة
هناك شهودُ سيؤكدون لكم أنني توقّعت، منذ الأيام الأولى، أنّ النتيجة «الايديولوجية» الأساس لهذه التظاهرات ستكون في أنّ بقايا اليسار التي كانت تقدّم نفسها على طريقة «يسار، ولكن مع المقاومة» سوف تخلع ورقة التوت هذه؛ وأنّ «الشيوعي السابق» الذي انشقّ على خطّه، وعمل مع اعدائه، وحاربه لسنوات، سيلتقي اليوم - هو والذي ظلّ على «الطريق القويم» - في المكان ذاته تماماً. المسألة بالنسبة لي واضحة، والسؤال هو لماذا هم أصلاً هنا؟ لو أنّك نظرت الى الناشط «اليساري الحالي» ستجد غالباً أن لغته وجمالياته وأسلوب حياته - وما هو أهمّ، طبقته ومصالحه - هي أقرب الى «اليساري السابق» منه الى أيّ حزبللاهي (أو يمكنك، قبل أن تنظّر عن الطبقات في لبنان، أن تقارن المنبت والوضع الطبقي لقيادات المقاومة بمثيله عند من ينطق اليوم باسم الفقراء وسواد المواطنين والثورة، بدءاً من أفضلهم، شربل نحّاس، ووصولاً الى البرجوازية العليا في «بيروت مدينتي» ومتموّلي الجمعيات). المشكلة في الفهم تبدأ من مكانٍ أعمق: إن كنت، كالكثيرين، «تدعم المقاومة» من حيث هي سلاحٌ فحسب، أو تواريخ لانتصارات وتحرير، بدلاً من أن تفهم قاعدتها الشعبية وعقيدتها وتاريخها الاجتماعي (أو تحمل نسخة استشراقيّة غبيّة عن هذه الأمور)، فأنت ستصل سريعاً الى حالة الفصام التي سبقك الكثيرون اليها («نحبّ المقاومة ونكره المقاومين»). و«دعم المقاومة» يعني أن تفهم لماذا هي جذبت الفقراء، ولماذا تجذّرت، وأن تقاربها وتشارك ناسها قضاياهم من هذا المنطلق، لا أن ترقص معهم في احتفالات التحرير والنّصر.
إن كان النّظام قد وصل الى آخره، وابناؤه يتبرّأون منه، فلا داعي للترقيع


المشكلة عند الناشطين البرجوازيين ليست فيهم ولا في شعاراتهم. سواء كنت تريد تحطيم النظام الطائفي أو تدمير النظام الأبوي أو تحقيق العدالة الجندريّة، هذه كلها أمور ممتازة ولا أحد سيقول أنه لا يريدها في مجتمعه. المشكلة «عمليّة» بحت، وهي التي تكلّم عنها ماو، وتكرّرت في كلّ حراكٍ سابق: انتم، كطبقة وسطى، قليلون في مجتمعاتنا الفقيرة، فلن تقدروا - وان اجتمعتم - على امساك النظام أو قلبه، وهذه الشعارات لن تجذب جماهير الفقراء حتّى تصيروا أغلبية، ولوحدكم، لا يمكن أن تقوموا بثورةٍ أو حتى أن تغلقوا طريقاً. لهذه الأسباب، حين «14 اذار 2005»، انتقل قسمٌ هائل من اليسار اللبناني، في لحظة، الى معسكر الحريريّة واليمين المسيحي، ولكن هذا لم يصنع أيّ فارق سياسي (أقصى ما ستفعله هو أن تصبح كاتباً لديهم). ما جعل «ثورة الأرز» ثورة، وأعطاها جسداً وجماهير لم تكن الواجهة الليبرالية والصور الجميلة التي تناقلها الاعلام، بل أنّه كانت خلفها عصبيّة طائفية نفخت فيها الرّوح - سنيّة ومارونيّة، وحين انسحبت هذه الجماهير اختفت «14 آذار» أو صارت أشبه بحركة سياسية هامشية (ولولا العصبيّة الشيعيّة، لما جاء أحدٌ لـ«يشكر سورية» في 8 آذار). الحراك الحالي، بالمثل، لم يقم على جمهور الناشطين واليسار والليبراليين ولا على تجريدة «النّاس والجماهير»، بل على قوى سياسية لبنانية حقيقيّة، لها جمهورٌ وتنظيم وتحصد مقاعد نيابيّة.
كلّ هذا لا يهمّ الآن، والوقت ليس لتفكيك السرديّات. ما يهمّ في الواقع الفعلي هو أنّ ورقة الانقاذ الاقتصاديّة، التي كتبت عنها سابقاً وقلت إنها لن تحلّ شيئاً، بل تشتري وقتاً لسنةٍ أو سنتين، قد اختفت ومن شبه المستحيل تأمين بديلٍ فوري أو سريع. لم يعد هناك اذاً ما يعصمنا، ولو بالمعنى النفسي وروحية الأسواق، عن المرحلة الأخيرة من فقدان الثقة، وكلّ سلسلة النتائج التي ستترتّب على انهيار اقتصادي يجري بلا رادع. نظريّتي في هذه الحالات معروفة وقديمة: إن كان النّظام قد وصل الى آخره، وابناؤه يتبرّأون منه، فلا داعي للترقيع. إن هبت أمراً فقع فيه؛ وما كلّ شيءٍ في الحياة يمكن التخطيط له. ولنتحضّر للمرحلة القادمة من تاريخنا، بدلاً من التمسّك بخرقةٍ بائسة تحت وهم أنها ستشكّل لنا حمايةً وأمناً. نتخلّص، مرّة واحدة، من النّظام ومن شبكاته المالية ومن الدّين العام الذي يسحق رقابنا، ورواتب عشرات الآلاف ممن لا يستحقّ. السّقوط، حين يحصل، سيكون فعلاً «ثوريّاً» بحقّ، وسنرى ديناميات «طبقيّة» بحقّ، ولكنه ليس من نوع «الثورات» الذي تقابله بالفرح والأهازيج والأعلام الملوّنة، بل تنتظره بوجومٍ وقلق واستعدادٍ لدفع أثمانٍ لا نعرفها بعد. حين تحلّ ساعة الحقيقة، في «الواقع رقم 1»، كلٌّ سيحصد ما زرع.