بين دجل هذا وزجل تلك ولا خجل ذاك، يقترب الحراك التاريخي، شكلاً ومضموناً، فرصاً وإمكانات، من إضاعة الأهداف التي استدعته. وهي الأهداف المعروفة، والمعيّنة، موضوعياً، بفقر الناس المهين، وثراء سارقيهم المستفزّ، والمتزامنة مع لحظة تعمّق تشقّقات البنية الحاكمة وتفاقم تناقضات الاجتماع الطائفي وتخلّف بناه وفساد أدواته.الغايات النبيلة التي حرّكت الكوامن المقهورة، وألهبت الشوارع بصرخات الغضب التي جلجلت وزلزلت وكادت - لولا عناية أهل المنظومة من القتلة واللصوص وتدبّرهم السريع («استقالة» سعد الحريري. تسلّل مرتزقة ما يسمّى بـ«المجتمع المدني». فضلاً عن اختراقات جعجع وجنبلاط...) - أن تهيئ، قولاً وفعلاً، لانقلاب الموازين الحاكمة... أو على الأقل فرض تعديلات جوهرية من شأنها القطع العملي والمادي، العاجل أو الآجل، مع النموذج اللصوصي الذي ابتنته الحريرية السياسية التي جيء بها أوائل تسعينيات القرن الماضي إلى السلطة. أي غداة الانقلاب الذي مكّن رفيق الحريري ومن معه من زمرة مختارة وفاعلة من لصوص الحرب وقَتَلَتها من الاستحواذ على أكثر من ثلثي القرار اللبناني برعاية أميركية - سعودية - سورية. ففي تلك اللحظة، وبخلاف الآمال الزائفة والوعود الكاذبة التي تفشّت كالطاعون، دخلت الدولة (أو أنقاضها الناجية من الحرب) ومفهومها مرحلة الاحتضار المديد الذي هيأت له مقاربات لصوصية وسياسات قاصرة وخاطئة راهنت على سراب حلّ الصراع العربي - الإسرائيلي والقدرة على تجاوز الحقّ الفلسطيني والعربي. إن من شأن العودة إلى وقائع تلك الأيام والتدقيق فيها أن يفضي إلى استنتاج أنها اللحظة الفعلية التي بتكاملها مع نتائج الحرب الأهلية أسّست للانسداد الذي نعيش اليوم فصول انفجاره الذي تأخّر. بل إن حالة شبه الإفلاس الذي وصلت إليه البلاد على يد هذه الطغمة لا تترك مجالاً للشك بأن الباب الوحيد للخلاص أو للخروج من الحفرة العميقة التي جُررنا إليها، يستلزم، ابتداءً، الإطاحة الكاملة بهذا النموذج. وكل طرح آخر هو شكل من أشكال التسويات التي تبقى بلا معنى. ولا يعدو أن يكون مجرّد حيلة إضافية هدفها شراء بائس للوقت الذي ضاق ويوشك أن ينفَد.
الذين قاموا بالحراك، وأشعلوا ناره هم غير القائمين عليه اليوم. وهذا ما تفضحه الكاميرات المنصوبة والممارسات المدروسة. فالقوى التي سمحت لها جملة من التعقيدات الداخلية والإقليمية بالتسلل إلى الحراك ومن ثم الإمساك ببعض مفاصله المؤثرة تملك أجندتها الخاصة ذات المضمون المشبوه. المضمون البعيد عن مصلحة الناس الذين انتفضوا وهبّوا أو أولئك الذين كانوا بصدد اللحاق بهم. وهي الأجندة التي فرضت وتفرض عليهم خطوات مغايرة (إن لم تكن مضادة، وهي فعلاً كذلك) تستبعد العمل على التجذير الذي كان يتطلّب، من جملة وأول ما يتطلّب، إعلان الهوية والبرمجة والتأطير ورسم السقوف واستهداف «القصور»، كل القصور، المسؤولة عن النهب. وبدلاً من هذه المَهمات البديهية التي يفرضها وعي اللحظة وطبيعة الحراك وهويته، تعمد تلك القوى إلى إلهاء الناس بالاستعراض الذي يساهم في تشتيت الجهود وبعثرتها وربما أفضى في وقت غير بعيد إلى تحقيق الغاية المرجوّة منه وهو الحفاظ على مجمل الترسيمات المعاكسة لمصالح الناس وتثبيتها. فأوضاع المنظومة المهتزة، وبرغم ما لحقها من رضوض ما زال على تماسكه السابق على الانفجار. بل إن ثمة من شرع بين تلك القوى، كتيّار «المستقبل» في عمليات الترميم. والأرجح، وهو ما لا يجب أن يفوتنا، أن خطّة المنظومة في معركة الحفاظ على نفسها تلحظ احتمال أن تسوء الأمور وتتعطل الخطط على ما يوحي به إرباك رياض سلامة وضياعه. وفي هذه الحالة ستلجأ إلى ممارسة ما تجيده من ألاعيب وربما عمدت إلى تقديم بعض التنازلات الشكلية ولكن بما لا يخدش، وهنا الشرط الأساس، المصالح الراسخة للقابضين على السلطة (ورقة الحريري «الإصلاحية» مثالاً). إن القوى التي تسنّى لها خطف الحراك والعبث بروحه وإغراقه بالمبالغات حيناً وبالشعارات الخاطئة حيناً آخر، أظهرت، لمن جرّب أن يرى، حجم ونوعية الحرص على إغراقه بالطابع الكرنفالي، ومستوى الجهد المبذول في سبيل ألا يعكّر صفو هذا الكرنفال البائس هدف واضح أو عنوان صحيح. خصوصاً ما اتصل منها باستهداف الفاعلين المسؤولين عن انتشار الفقر والعوز أو حتى تسميتهم. لكن الخبر الجيّد، حتى الآن، أن محاولة الاستيلاء المرعيّة إعلامياً وسياسياً و«سفاراتياً» تواجه صعوبات غير قليلة لا أدلّ عليها من سلسلة الفعّاليات الأخيرة المتفرقة والتي تميّزت بحسن التصويب ودقّته، وشملت إلى «مصرف لبنان» بعض المصالح والعناوين ذات الصلة، وفي مقدمها عملية اقتحام «جمعية المصارف». فالردّ العنيف الذي أظهرته السلطة في مواجهة الشبّان كشف عن أهمية هذه العملية وخطورتها على البنيان اللصوصي القائم. كما كشفت عن جرأة المنفذين ووعيهم الذي يُبنى عليه.
يبقى على أصحاب الحق أن يكونوا متيقظين من ألاعيب السلطة التي لم تتوقف يوماً


إن الحرص على الحراك وما يوفّره من فرص جدّية في إحداث الكسر اللازم يستوجب تكرار لفت النظر إلى وجوب المباشرة في عملية التجذير وتالياً إحداث الفرز اللازم لضمان الاستمرارية وصولاً إلى تحقيق الأهداف. والدعوة المكرّرة هذه تنطلق من إدراك أهميّة ومفصلية اللحظة المتاحة. بل إن أهمية التجذير لا تقتصر على مكسب تحصين الحراك الذي يصعب تحقيقه إن لم يقترن مع مَهمة الدفع في اتجاه الوضوح الذي تزداد الحاجة إليه أكثر فأكثر. فوضوح الأهداف والفاعلين الأساسيين عنصر من العناصر القادرة على إعادة التزخيم، والسبيل الأساس في مَهمة تنقية الجسم الحراكي من مندسّي السلطة ومرتزقتها وغيرهم من قنّاصي الفرص وتجارها. أما استمرار التعتيم والضبابية والإصرار عليهما بحجج بائسة لا يمكن أن ينطليا على عاقل فيمكن أن يتسببا في تآكل ما تم إنجازه حتى الآن، والإطاحة برأسمال المصداقية المهتز، واستعداء من لا يزال يراهن على إمكانية استنقاذه من براثن تجّار القضايا وحملتها المزيفين.
يبقى على أصحاب الحق أن يكونوا متيقظين من ألاعيب السلطة التي لم تتوقف يوماً. وخصوصاً لجهة ما يتسرب عن نيّة القائمين عليها قرارهم بمنح الحراك تمثيلاً في الحكومة المنوي تشكيلها. إننا على موعد مع البازار. الأرجح أننا سنكون شهوداً على سيل لُعاب الكثيرين من مناضلي اللحظة الأخيرة ومناضلاتها.