في تأريخه لحركة الشباب الزغرتاوي الثقافية، الخارجة عن «هيمنة» العائلات، يقول الدكتور خليل الدويهي في كتاب لافت وصادر في توقيت ملائم، إن «أصحاب التقاتل وهم المرجع والأسياد لا يخاطبون الآخر بوصفه شخصاً يتساءل ويبحث، ولديه آراؤه وقناعاته التي يجب أن تحترم احتراماً إنسانياً ولحقّه في الحرية، إنما يخاطبونه بوصفه عدواً أو نصيراً لأعدائهم أو ضالّاً فيدعونه الى الهداية».منذ الستينيات، ومن بلدة تجذّرت فيها العائلية وحكمتها، الى بيروت عام 2019 التي تحتفل بشيء خارج عن المألوف، لم يحدد بعد ما إذا كان ثورة أو احتجاجاً أو تظاهرات أو انتفاضة أو تمرداً، لكنها قطعاً تعيش أجمل أيامها، من دون أن يعني ذلك أن جمالية هذه الأيام قد تستمر شهوراً أو سنوات. وبعد ثلاثة أسابيع، من المبكر استخلاص أي نتيجة أو قراءة المحرك الرئيسي لما جرى ويجري، في ضوء التجاذب الحاد بين فكرة الشارع، وفكرة التنازل عن أي مكتسبات من الأطراف السياسية. لكن ما جرى حتى اليوم، ورغم الاعتراف باستغلال سياسي محلي وخارجي، لا يعفي أهمية الاحتفاء بنواة أساسية تريد «أن تُحترم احتراماً إنسانياً».
يمكن القراءة والكتابة كثيراً عن هذا الاستغلال المحلي والخارجي. هناك مكان بعيد عن البراءة المطلقة في أي عمل من هذا النوع الذي لم يعرفه لبنان سابقاً، يعترف به حتى بعض من نزل الى الشارع بعفوية مطلقة، أو في استثمار البعض لهذا التحرك للوصول الى السلطة. في بولونيا، تدخّل البابا يوحنا بولس الثاني مباشرة، عدا عن التدخل الأميركي، في تظاهرات حركة التضامن في الثمانينيات، وفي كل ما شهدته أوروبا الشرقية لاحقاً. لكن حين تظاهر آلاف العمال، وصل واحد منهم هو ليش فاليسا. وفي تشيكوسلافاكيا وصل الكاتب والمسرحي فاكلاف هافل الى رئاستها وحده. يصل دائماً واحد، إذا نجح الانقلاب الشامل. عكس ذلك يمكن أن يكون الاحتواء فخاً، كما يُعمل عليه اليوم.
يصدف أن ألمانيا تحتفل هذا الأسبوع بالذكرى الثلاثين لسقوط جدار برلين، والاحتفالية الكبرى التي شهدتها حينها، في مشاهد تتقاطع مع بعض ما تشهده بيروت وطرابلس وكفررمان. مع كل التغطيات الإعلامية وإعادة قراءة ما جرى في تلك الأيام السابقة لانهيار الجدار، عودة حتمية الى مفكرين ومثقفين وطلاب لم يصلوا الى السلطة، بل بقوا في مراكزهم الأكاديمية وهم ممن كانوا نواة الاجتماعات التي عقدت في برلين الشرقية تحضيراً للتظاهر، قبل أن يتدحرج الوضع الى ما لم يكن متوقعاً. سنوات ضوئية تبعدنا عن تلك اللحظة كفعل احتجاجي وردات فعل على ما جرى عند ذلك الجدار. صحيح أن ردة الفعل الرسمية اللبنانية ضد التظاهرات لم تقارب قمع ربيع براغ أو 7 آب اللبنانية، لكن هذا لا يعني أن الهدوء الحالي ليس هدوء ما قبل العاصفة، لأن ثمة محاولات رسمية لتفريغ ما يجري من مضمونه، بعد سقوط الاحتمالات الأمنية، من خلال الوعود المقدمة بتأطير المتظاهرين في حكومة واحدة الى جانب السياسيين الذين انتفضوا عليهم، سواء كان هؤلاء ممثلين مباشرة أو عبر «موظفيهم». وهذه خدعة موصوفة، في استخدام إغراء السلطة لجعل المتظاهرين من ضمن منظومة كاملة لا يمكنهم أن يتركوا تأثيراً فيها، ما دامت المنظومة نفسها ستبقى قائمة بلا أي تعديل.
ينقل أحد النواب عن مرجع رئاسي قوله إنه لولا الإطار الطائفي والمذهبي للتركيبة الحاكمة، لكان بإمكان هذه الحركة أن تسقط كل المرجعيات. وهذا قد يكون أحد الأسباب الرئيسية في محاولة الالتفاف على أي تغيير فعلي، ليس في شكل السلطة الجديدة، وإنما في إحداث انقلاب في آليات العمل الاقتصادي والاجتماعي. لأن مراجعة بسيطة لأداء بعض القيادات خلال عشرين يوماً لم تظهر أن أمراً تغيّر في سلوكياتهم ومقارباتهم لحلول جذرية لأسباب المشكلة، عدا ارتفاع منسوب العنجهية والمكابرة. من هنا، يكمن خطر اجتذاب الشارع الى الحكم. وهذا فيه مخاطر كثيرة. يقول أحد السياسيين المرافقين لحركة التظاهرات، حين عمت فرنسا التظاهرات الطلابية عام 1968، لم يدع الرئيس الفرنسي شارل ديغول المتظاهرين الى الحكومة، بل اقترح إجراء استفتاء عام قبل أن يقرر الدعوة الى انتخابات نيابية مبكرة. وهذا يعني أن المشكلة التي تظاهر من أجلها الناس في الشارع لا تتلخص في شخصيات نافرة أو مستفزّة، بل في أداء اقتصادي واجتماعي ومالي يزداد سوءاً. وهذا حله لا يكمن في إضافة أسماء جديدة الى تشكيلة حكومية تعتمد نهجاً عمره من عمر حكومات الرئيس الراحل رفيق الحريري وحتى حكومات نجله في عهد الرئيس ميشال عون. المشكلة الأكبر قد تكون حين ينجح فريق السلطة في اجتذاب طامعين بالسلطة الى القبول بهذا العرض، بدل البقاء خارج السلطة ومراقبتها ومحاسبتها عن قرب. وإلا يضاف عنوان سيئ آخر الى بضعة عناوين سلبية لا علاقة لها بالمطلب الاجتماعي والاقتصادي، بدأت بعض التحركات تفرزها وتحيد عن الهدف الأساسي الذي من أجله اشتعلت ساحات لبنان.