في «مؤتمره الصحافي» أمس، بدا حاكم مصرف لبنان رياض سلامة كأنه يعيش كابوس الانهيار. للمرّة الأولى، يقرّ علناً بوجود أزمة نقدية. خرج للدفاع عن نفسه. يطلب البراءة. أوراقه ضعيفة، لكنه يراهن بكل شيء عليها، محافظاً في الوقت عينه على الـ«بوكر فايس» (وجه المقامر). سمات مماثلة للانفصام الذي تعيشه غالبية قوى السلطة منذ 17 تشرين الأول إلى اليوم. يراهنون على أن التحرّكات الاحتجاجية حدث عابر يسقط بمرور الزمن. رهان سلامة أن لغته التقنية عن الأزمة وعباراته المركّبة قد تمسح الذنوب و«تلزقها» بآخرين. «هم». كأنه لم يكن أحد أركان هذا النموذج الذي يحتضر، ولم يكن أبرز مهندسيه على مدى عقدين ونصف. نموذج قائم على الدولار. قالها بالفم الملآن: «لا يوجد دولار لا يوجد اقتصاد». خطابه ترك خيبة واسعة. بين من ظنّوا أنه «ساحر» يسحب «أرنباً» من قبعته وينهي الأزمة بهزّة عصا واحدة، وبين من أربكهم الكلام التقني، ومن أصابهم «الملل» من السرد والتناقضات. سلامة قرّر أن يغسل يديه من دم الانهيار. فليحمله أحد غيري!
تناقضات بالجملة
يعدّ هذا «المؤتمر الصحافي» الإقرار العلني الأول بوجود أزمة ذات جذور نقدية ومالية قابلة للانهيار في أي لحظة. رفع سلامة لاءات كثيرة ثم حطّمها خلال دقائق. لم يقل أنه يرفض تطبيق الـ«كابيتال كونترول» أو تقييد عمليات السحب والتحويل بشكل رسمي، بل قال إنه لا يريدها، ثم أعلن سريعاً أنه سيموّل المصارف بالدولارات، لكنها ليست للتحويل إلى الخارج. كلام سلامة محيّر، فما هي تسمية منع التحويل إذا لم تكن «كابيتال كونترول»؟
سلامة لم يصرف الأموال، بل «صرفها من قرّر وراقب الموازنات»، بمعنى آخر مجلسا الوزراء والنواب. أما عن دور مصرف لبنان، فقد انحصر في التمويل، على حدّ تعبير سلامة. كذلك هو لم يستعمل المال العام عندما نفّذ الهندسات المالية في 2016، بل دفع للدولة 5 مليارات دولار ودفعت المصارف 800 مليون دولار ضرائب على أرباحها من الهندسات. لم يقل سلامة من أين دفع للمصارف 5.5 مليارات دولار وللدولة مبلغاً مماثلاً. ألم يدفع من ميزانيته أياً من المال العام؟ وهو أيضاً لا يتحمّل مسؤولية نشوء سوق موازية لسعر الصرف لدى الصرّافين تسعّر الليرة على «ذوقها»، بل هو مع الاقتصاد الحرّ ومع إبقاء سعر صرف الليرة عند الحدود التي رسمها مصرف لبنان مع المصارف. وهذه الأخيرة، فعلياً، لا تبيع الدولارات إلا لكبار الزبائن ولأعضاء مجالس إدارتها ومالكيها، فيما مصرف لبنان يقنّن ضخّ الدولارات في السوق. وذهب سلامة أبعد عندما وصف نشوء السوق الموازية لدى الصرافين بأنها «ظاهرة ستتراجع»، محمّلاً المواطن مسؤولية ارتفاع سعر الصرف لدى الصرافين، لأنه لا يعرف مصلحته: «أزمة الصرافين هي نتيجة عرض وطلب، ومصرف لبنان لا يتعاطى بالأوراق النقدية بالدولار، وعلى المواطن أن يعرف مصلحته».
وهو ليس من طلب من المصارف القيام بتدابير تتعلق بتقييد عمليات السحب والتحويل، بل هي من تلقاء نفسها قامت بذلك، وهو طلب منها التراجع عنه. لا بل طلب منها التراجع عن وقف التسهيلات المصرفية والاجتماع مع التجار للتفاهم على كيفية العمل، سواء لجهة تأخير الاستيراد أم تسديد القروض وأيضاً من خلال تأمين التسهيلات.
الأنكى من ذلك كله أن سلامة أعلن أن مصرف لبنان يملك 30 مليار دولار قابلة للاستعمال، مكذّباً كل وكالات التصنيف. إذا كان يملك هذه الاحتياطيات فلماذا هناك أزمة؟ ولماذا لا يجري تعويم المصارف بالدولارات لتهدئة السوق؟ خلافاً لكلام سلامة، «موديز» قالت إن احتياطيات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية القابلة للاستعمال تراوح بين 6 مليارات دولار و10 مليارات، و«ستاندر أند بورز» أوضحت أن هذه الاحتياطيات تصل إلى 19 مليار دولار من ضمنها الذهب المقدرة قيمته بنحو 12 مليار دولار، ووكالة «فيتش» قالت إن احتياطياته فيها عجز يبلغ 32 مليار دولار.

خطاب التبرير
في كلام سلامة الكثير من التحايل والتناقض اللذين قدّمهما في سياق «غسل» يديه من انهيار محتمل. استعاد كل الأزمات منذ 2011 ليبرّر تنفيذ هندسات مالية كانت كلفتها هائلة على ميزانية مصرف لبنان. فاستهلّ كلامه بالحديث عن أزمة ميزان المدفوعات الذي انقلب من فائض إلى عجز بعد الحرب السورية. تلاها تراجع النمو الاقتصادي من 5% الى 2%، «وفي 2015 واجهنا العقوبات، وكان لها تأثير على حركة الأموال الى لبنان». وتحدث أيضاً عن مشاكل داخلية، منها الفراغ في سدّة الرئاسة مرتين، وصعوبات في تشكيل الحكومات، «ما أدى الى فراغات كبيرة وطويلة آخرها في عام 2018 لـ9 أشهر، في وقت كنا فيه بأمسّ الحاجة الى الإصلاحات». كذلك تطرق إلى التأخير في إجراء الانتخابات النيابية، ثم استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري من السعودية التي «كانت لها آثار سلبية، إذ شهدنا تراجعاً في السيولة وارتفاعات في الفوائد». وعاد سلامة إلى لهجة ظنّ اللبنانيون أنها نقاش انتهى بعدما تبيّن أن سبب الأزمة هو اعتماد لبنان على عمليات الـ«بونزي» (الاستدانة بالدولار من الخارج وإنفاقه في الداخل) وأشار إلى أن «كل ذلك تزامن مع توسّع أكبر في حجم القطاع العام، ووصلنا إلى عجز مرتفع خلال عام 2018 وصل الى أكثر من 11% من الناتج المحلي، فيما كان الاقتصاد بحاجة إلى التمويل لينمو، كذلك شهدنا تراجعاً في التصنيف الائتماني للبنان».

أولوية الأدوات النقدية
وأشار سلامة إلى أن هدف مصرف لبنان «الحفاظ على الثقة بالليرة اللبنانية. هذا أمر أساسي. الليرة أداة لتأمين النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، ونسب التضخم ترتفع والقدرة الشرائية تتراجع في حال تراجعت الليرة، النجاح هو في المحافظة على استقرار الليرة اللبنانية»، لافتاً إلى تراجع الحركة الاقتصادية، «والنمو هو صفر، ما زاد في البطالة وأثّر على فئات من الشعب اللبناني».
إذا كان مصرف لبنان يملك 30 مليار دولار فلماذا هناك أزمة؟


ورغم لجوئه إلى الاعتبارات التي تربط الليرة بالقوة الشرائية للبنانيين، إلا أن سلامة تحدّث عن «ارتفاع نسبة التعثر في تسديد القروض السكنية بشكل لافت». وكأن سلامة أغفل عمداً الحديث عن أثر سياساته النقدية في تراجع القدرة الشرائية لهذه الفئات التي باتت غير قادرة على تسديد التزاماتها تجاه القروض السكنية، علماً بأن مساكنها تشكّل الغطاء الأساسي لمعيشتها. في الواقع، إن تراجع قدرتها الشرائية سببه السياسات النقدية التي أعطت الأولوية لإحياء النموذج على حساب الاقتصاد المنتج.

ظروف استثنائية لا أزمة
ولفت إلى أنه منذ أوائل أيلول، «دخلنا في انتكاسة، ولمسنا توجهاً إلى سحب نقدي في أيلول وتشرين الأول والثاني. اللبنانيون ادّخروا أموالاً نقدية في منازلهم وسحبوا ما يوازي 3 مليارات دولار». ورفض سلامة أن يسجّل على نفسه القيام بعملية «قصّ الشعر» أو «شطب الدين» على الودائع، كأنه يريد أن يترك مجالاً لهروب المزيد من الودائع إلى الخارج، علماً بأن الكثير منها هرب حتى في أيام إقفال المصارف!
واللافت أنه أعلن موقفه من هذا الأمر من دون أن يقفل الأمر بشكل نهائي، «مصرف لبنان لا يريد ذلك وليس له صلاحية ليقوم بذلك، وضعنا الآلية لنحمي المودع من خلال عدم تعرّض أي مصرف للتعثر. الخسائر تأتي عندما يتعثّر المصرف، وعندما نقول لن يكون هناك مصارف متعثّرة، نكون حمينا كل الودائع في المصارف».
ووقع في تناقض إضافي عندما أشار إلى أنه يسعى إلى خفض الفوائد، فيما هو سيقوم بتسليف المصارف بالدولار بفائدة 20% «لكن هذه المبالغ غير قابلة للتحويل إلى الخارج». الخطاب الباهت، تضمن أيضاً إقراراً ضمنياً بأن الأزمة النقدية والمالية فرضت عليه تأمين تمويل للمشتقات النفطية والقمح والدواء. هنا الأمر مثير للاستغراب. فإذا كان لدى سلامة 30 مليار دولار، فلماذا انفجرت أزمة استيراد هذه السلع؟ ولماذا هناك أزمة أصلاً؟



موظفو المصارف: إضراب مفتوح
أعلن اتحاد نقابات موظفي المصارف إضراباً مفتوحاً بسبب ظروف العمل «غير المستقرّة» بعد تعرّض الموظفين للإهانات والشتائم واعتداءات من المودعين، «رغم تفهّمنا لهواجسهم».
قرار الاتحاد جاء بعدما تبيّن أن جمعية المصارف ومصرف لبنان يضعان الموظفين في وجه المودعين، إذ يشكو الموظفون من ضآلة الأموال الموضوعة بين أيديهم لمواجهة الحالة القائمة في السوق. بحسب مصادر الاتحاد، فإن بعض المصارف يمدّ الفروع بكمية ضئيلة جداً من الأموال النقدية، فيما الضغط كبير من الزبائن الذين يطالبون بحقوقهم في سحب ودائعهم. كذلك، فإن مخاوف الموظفين من ارتفاع نسبة العنف في التعامل معهم باتت أمراً طارئاً تستوجب التوقف عن العمل، «فإذا كانت المصارف ترفض إمداد الفروع بالمال الكافي، فعليها أن تتحمّل هذه المسؤولية مع مصرف لبنان».