لن تنفع المداراة في معالجة مشكلة، ولا تعالج المحاباة جروحاً عميقة، ولا المسايرة تبني وطناً أو علاقات وطيدة. وحدها الصراحة، مهما كانت قاسية، تفيد في اللحظات الحرجة، وتساعد الناس في لحظة تعقل كاملة، أو حتى في لحظة انفعال، على الاختيار بين الذل المغطّى بغيوم كثيفة من الكلام المعسول والأحلام، والحياة الحرة مهما كانت قصيرة.الذين نزلوا الى الشارع غاضبين من هذا الحكم ليسوا هم الذين يرفعون الشعارات المنمّقة. من يحتاجون إلى دولة عادلة غير الذين يريدون الاستيلاء على الدولة كما يفعل الحاكمون اليوم. ومن يعانون الأمرّين من جرّاء الظلم المتنوّع غير الذين لا يعانون نقصاً في الأكل والطبابة والثياب والسكن. ولا يمكن أن يستوي تغيير جذري بهذه الآليات.
من لديه ذاكرة، فليراجع ما شهده لبنان خلال ربع قرن. احتجاجات سياسية وتحركات شعبية وانتفاضات أهلية ومواجهات وحروب باردة أو ساخنة. ومن لديه ذاكرة وعقل، وقلب حقيقي، فليعد الى أرشيف لم يندمل، وإلى مواقف وتصريحات وشعارات وتحركات غالبية من ينسبون الى أنفسهم النطق باسم آلام الناس، من سياسيين وإعلاميين وناشطين وأحزاب وتجار ورجال أعمال وأصحاب مهن حرة. ليرجع الجميع الى أرشيف طريّ، موجود حيث يريدون، وليعاودوا قراءة المواقف والمقالات والتصريحات، وليعاودوا مراجعة المفاوضات والتحالفات والتكتلات، وليعاودوا مراجعة التسويات والصفقات السياسية وغير السياسية، وليعاودوا قراءة لوائح المرشحين لتولي المناصب... ثم ليختموا بمراجعة أسماء المرشحين لتولي مناصب نيابية ووزارية، وكيف ترتفع أكثر أصوات من لم تشملهم الترشيحات.
من يفعل ذلك بصورة هادئة، سيكتشف أن هناك جيشاً من المنافقين الذين ينتشرون اليوم في الساحات والشوارع، ويحتلون الشاشات والمنابر على أنواعها، ويركضون ويهتفون ويصفقون ويغنون ويرقصون، بالطريقة نفسها واللغة نفسها والأسلوب نفسه، وإن خارت قوى بعضهم، أو احتال آخرون على أعمارهم وعلى الأجيال، لكن النتيجة هي ذاتها؛ من فشل الى فشل، ومن إحباط الى إحباط، ومن خيبة الى خيبة. وفي كل مرة نعود فيها الى لحظة الاختيار الهادئ، حيث يقف الإنسان الحر، بينه وبين نفسه، ولو لثوان أمام صندوقة اقتراع، ترى هذا المواطن الملدوغ يعود الى هواجس يعتقد أنها أصيلة، ويعود الى حسابات تبدو معبّرة عن حاله وتطلعاته وقدراته، ويختار من يختار.
في كل مرة، نكتشف أن التغيير بطيء للغاية. الأمر لا يتعلق بسلطة فاسدة وقاهرة ومحركة للعصبيات الطائفية والمذهبية فحسب، بل بنقص حاد في المحفزات عند الناس من أجل اختيار بديل غير واضح. ولأن الناس يشعرون بالخير وبالشر، كما يشعرون بالسكينة أو بالخطر، فهم لا يبالغون عندما يختارون هذا بدل ذاك، مهما كانت التعبئة قاسية، ومهما كانت اللحظات حساسة. ومن يفرح لغضب الناس وانتفاضتهم، يعرف أنهم هم أنفسهم من غضبوا وانتفضوا مرات ومرات، وهم أنفسهم الذين عبّروا عن سخطهم طوال السنوات الماضية، تارة باحتجاج على تلوّث، أو نقص في المياه، أو غياب لعدالة في الرتبة والراتب، أو بحثاً عن هوية وطنية وسيادة مغناة في القصائد فقط، أو نصرة لقائد أو شعار أو مظلوم، أو بحثا عن ملاذ بعيد عن الطائفية والذمية والقهر السياسي، أو رفضاً لسلطة أمنية أو سياسية أو اقتصادية. لقد خرج الناس مراراً وتكراراً خلال ربع قرن.
لكن، في كل مرة يعود فيها هؤلاء الى صندوقة الاقتراع اللعينة، تراهم يعيدون إنتاج البضاعة نفسها. ليس لأنهم يرغبون في هذا القدر المحتوم، بل لأنه لا بديل يجرّهم الى المكان الأفضل، ولا بديل يمنحهم الثقة الكافية لهدم الهيكل القائم. ولأن الناس على هذا المنوال، لا يمكن اليوم أن يخرج مجهول من بين الناس، يوزع شعارات ويضع خططاً ويقرر تحركات من هنا أو هناك. ولا يمكن لشاشات ملوثة، لا ملونة، أن تخترع قادة وصنّاع تاريخ. ولا يمكن لمرتزقة وسارقين أن يرفعوا لواء الدفاع عن مظلوم. ولا يمكن لثريّ لا يشرح لنا مصدر ثروته، أن يعدنا بالمنّ والسلوى إن فوّضنا إليه إدارة البلاد وخيراتها. ولا يمكن لمثقف يخفي جبنه خلف مؤسسات اخترعها الغرب المعادي، أن يعطي دروساً في الوطنية والاستقلالية والمدنية، وهو الذي لا يشرح سرّ الهبات الغربية التي تصله دون غيره. ولا يمكن لمناضلي الساعة العاشرة أن يخلعوا الثياب المنمّقة والياقات، وينزلوا الى الساحات كأنهم في فيلم هوليودي، ثم يعتقدون أننا سنفضّلهم على من بذل الدم من أجلنا ومن أجل مستقبل أولادنا...
لكل ذلك، لا مناص من قول ما لا يعجب كثيرين من الغاضبين، لكنه ما يغضب كثيرين من الكذابين، وهو قول واضح محدد:
إن ما يشهده لبنان اليوم لا يؤسّس لتغيير حقيقي وشامل، بل هو سيعيد ترميم النظام نفسه، من خلال استبدال وجوه بوجوه. وما نشهده اليوم لن يقود الى بلد جديد، بنظام حكم جديد، وبمؤسسات وسياسات جديدة، بل هو سيعيد إنتاج النظام نفسه، لكن بتعليب جديد وأسماء جديدة.
لم يشهد التاريخ انتفاضة تبقى طوال الوقت من دون قيادة أو إطار تنسيق واضح وفعلي


كل انتفاضة لا تصيب مقتلاً في أهل النظام القائم، وكل انتفاضة لا تدمر هيكل النظام القائم، وكل انتفاضة لا تطرد اللصوص من الساحات ولو بقيت قلة صادقة، وكل انتفاضة لا تبدع في اختيار قادة مستعدين للتضحية بكل شيء، لا نفع منها، ولا رجاء... وكل ثورة لا تسأل عن مصدر هذا الدعم أو ذاك لا أمل منها، وكل انتفاضة لا تسأل عن سبب وجود هذا أو ذاك من مستثمري النظام القائم لا جدوى منها. ومع الأسف، لن يتأخر الوقت حتى يتعرّف الناس، من جديد، على وجوه ستنضمّ الى نادي المستوزرين والساعين الى احتلال مواقع السلطة بحجة التغيير. وستعود وسائل الإعلام التي تطارد المنتفضين اليوم، الى استضافة من تعوّدت فتح منابرها لهم، وعقد الصفقات معهم، أفراداً وجماعات، ثم تركض وسائل الإعلام ذاتها الى حصر برامجها عند أي انتخابات بأصحاب الأموال من دون سؤالهم عن مصدرها. وهل يحتاج الجمهور والحقيقيون من الناشطين إلى دليل إضافي على نفاق هؤلاء الإعلاميين والسياسيين الذين صاروا مثل حواريي الإقطاع يدورون من حولنا؟
صحيح أن أيّ انتفاضة تنطلق بعفوية، ثم تستقطب الناس بعفوية أيضاً، لكن لم يشهد التاريخ انتفاضة تبقى طوال الوقت من دون قيادة أو إطار تنسيق واضح وفعلي، إلا إذا كانت هناك «كلمة سر» تشجع الناشطين على عدم تنظيم صفوفهم، وعلى عدم خلق إطار قيادي فعلي. ومن يقف خلف هذه الكلمة، هو نفسه من يقرر جدول الأعمال. وهو نفسه، من يُعدّ اللوائح بأسماء المرشحين لتولّي المناصب، وهو من تواكبه السيارات السوداء الى مقار كبار أهل السلطة للتفاوض.
أكثر من ذلك، ثمة ميل عند بعض الذين انتفخت رؤوسهم لتولّي إدارة محكمة أخلاقية تقرر من هو الثائر ومن هو الفاسد. وبسذاجة سبق أن جُرّبت سابقاً، يُصِرُّ هؤلاء على لعبِ الدورِ نفسِه الذي تعودناه منذ عام 2005. وهؤلاء لا يشكون من تعرّضهم للقمع، بل يمارسون أقذر أنواع الكراهية والترهيب بحق الآخرين. والمشكلة ليست مع هؤلاء الذين نعرف أين مآلهم بعد وقت غير طويل. لكن السؤال هو للناس: فهل بين الذين نزلوا الى الساحات، ولو ظنوا أنهم يمثلون نصف لبنان، من يعتقد أن من حقّهم إرغام الآخرين، أي نصف لبنان الآخر، على السير خلفهم. وإذا رفض طلبهم، فهل يمنحون أنفسهم الحق في إدارة الحياة على ذوقهم؟
لم يعد المشهد هو نفسه كما كان قبل نحو شهر. الناس أنفسهم باتوا يعرفون الكثير من الحقائق، ويجيدون التمييز بين الحقيقي والمفتعل. ولن يتأخر الوقت حتى نجد أنفسنا بين خيارين لا ثالث لهما: الفوضى التي تثبت انقساماً صار واضحاً ولن تحجبه أصوات أو غيوم مصطنعة، أو الذهاب نحو مرحلة انتقالية، تستوجب بقاء الناس الحقيقيين في الشوارع والساحات، وستلزم المناضلين الحقيقيين بأجندات وبرامج، قد لا تجد إعلاماً يروِّج لها!