بانقضاء اسبوعين على استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري، كأن البلاد لا تزال في اليوم الاول. لم يتراجع اي من الافرقاء عن اصراره على تصوّره للحكومة الجديدة. ليس خافياً ان المشكلة باتت تدور من حول افرقاء ثلاثة فقط، هم المعنيون ليس بتأليف الحكومة فحسب، بل ايضاً بتفاقم المأزق الخطر الواقع: رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المستقيل وحزب الله.لم يكن صعباً امس ملاحظة خلو خطاب الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله من اشارات ايجابية، او سلبية، حيال ما يجري من تفاوض على تأليف الحكومة، خصوصاً أن التواصل المباشر بين الحريري والحزب علني ومكشوف.
في الغالب، في مفاصل الارتباك كما التفاوض الشاق، يُرسل نصرالله بعض العلامات لتوجيه مسار هذا التفاوض إما نحو التصلب او نحو الحلحلة، فيضع له مرات سقوفاً عالية ومرات اخرى يخفّضها. وهذا ما تفاداه البارحة. كذلك يُنتظر ما قد يعلنه مساء اليوم رئيس الجمهورية في حوار متلفز بإزاء الصعوبات التي يواجهها تأليف الحكومة.
قد لا يبدو قليلاً ابداً، هذه المرة، حجم التناقض الذي يحوط بموقفي الحريري وحزب الله من التأليف. مع ان احداً لم يعد يأتي على ذكر التكليف، كما لو ان الحريري - من دون تكليف دستوري بعد - يتصرّف على ان الامر معقود اللواء له، وعليه تالياً التفاوض المبكر على تأليف الحكومة التي يريد تأليفها، الا ان عدم مبادرة رئيس الجمهورية الى تحديد موعد للاستشارات النيابية الملزمة يعكس وجهاً آخر للمأزق، ودليلاً اضافياً على ان بشائر الخروج من المشكلة تتنظر بارقة هذا الموعد، سواء كان الحريري أم لا.
بيد ان معطيات غير قاطعة تتحدث عن احتمال تحديد الرئيس ما بعد منتصف هذا الاسبوع موعداً للاستشارات النيابية الملزمة، وإن من دون استكمال التفاوض على تأليف الحكومة ولا انتظار نتائجها حتى. الواضح، تبعاً لذلك، ان موقف عون لا يتمايز عن موقف الحزب، وكلاهما على طرف نقيض مما ينادي به الحريري ويشترطه:
1 - بحسب ما سمعه المحيطون به، يقول الحريري: «لن اكون رئيس حكومة الآخرين». عبارة مقتضبة مكمّلة لما ثابر على الاصرار عليه منذ استقالته في 29 تشرين الاول، وهو رفضه ترؤس حكومة على صورة الحكومة المستقيلة التي فيها سياسيون، وفيها تكنوقراط ينتمي معظمهم الى الكتل الرئيسية للوزراء السياسيين، من غير ان يكون في وسع احد تمييز الوزير السياسي عن الوزير التكنوقراطي في هذه الكتلة او تلك، سوى في التجرؤ والنبرة والصلاحية المنوطة به للتعبير عن موقف سياسي. بذلك يمسي هؤلاء على صورة اولئك بلا اي تفريق.
على نحو كهذا، فإن حكومة جديدة مختلطة وفق ما يتمسك به حزب الله، تعني إخراج الحكومة المستقيلة من القبر وبعث الروح فيها، كأن ما حدث منذ 17 تشرين الاول لم يقع ابداً. الامر الذي يرفض الحريري تجاهله، وكذلك إظهار اي استعداد للتساهل بإزاء تأليف حكومة مختلطة يتوقع ان تسقط بعد اشهر قليلة، على صورة حكومته المستقيلة. بفضل الوزراء العائدين - وبينهم «عناوين كراهية» رسمها الحراك الشعبي - او نظرائهم لدى كتلهم، لن يخرج الناس من الشارع وسيتعذّر عليه تحقيق اي انجاز. اكثر من ذلك، لا يكتم الرجل توجّسه من انهيار يقع ليس في ظل حكومة كهذه، بل في ظله هو بالذات.
2 - خلافاً لما يقول به حزب الله، لا يريد الحريري في حكومة يترأسها طرازاً من «الضِباع» التي ابصرها، ليس في حكومته المستقيلة فحسب، بل في معظم الحكومات المتعاقبة منذ اتفاق الدوحة عام 2008. ليس هؤلاء «الضِباع» - اذا كان لا بد من تمييزهم عن وزراء ودعاء غالباً ما يوصف به التكنوقراط - إلا تجسيداً لموازين قوى يصر عليها حزب الله وتؤيده حتماً حركة امل، تمثل الغطاء السياسي لحكومة لم تعد تستمد منذ ذلك الاتفاق شرعيتها سوى من هذه الموازين حصراً.
ليس سراً ان اتفاق الدوحة، بالأعراف التي أنتجها وأنجب من خلالها الحكومات المتعاقبة مذذاك والتزمتها هذه، شرّع فائض القوة لحزب الله في السلطة الاجرائية على نحو لم يكن لديه مذ دخل اليها للمرة الاولى عام 2005. وُزِّر حينذاك بغير حزبي اولاً مع حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، ثم في ما بعد اصبح وزراؤه حزبييه الموثوق بهم بدءاً من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة عام 2005. فائض القوة هذا لم يمنح حزب الله فاعلية التأثير في فرض وزرائه الحزبيين فحسب، بل ايضاً في فرض وزراء حلفائه كالتيار الوطني الحر وتيار المردة وحزب الوزير السابق طلال ارسلان انتهاء في الحكومة المستقيلة بوزير لنواب سنّة مستقلين مناوئين للحريري. مذذاك اصبح الحزب هو الحارس الفعلي لتوازن القوى في مجلس الوزراء، ودرجت الحكومات المتعاقبة على ان لا تبصر النور قبل ان يعطيها الضوء الاخضر. اما توقيع رئيس الجمهورية والرئيس المكلف منذ ولاية الرئيس ميشال سليمان، فليس سوى مسألة عابرة لئلا يقال شكلية في محتواها، وإن هي ذات حتمية دستورية.
مع حكومة مختلطة يخشى الحريري انهياراً سريعاً


لم يكن حزب الله بريئاً في حالات كثيرة من تأخر تأليف حكومات عدة، من غير ان يكون بالضرورة وحده العلة. من اجل ذلك يحتاج، في الحكومة الجديدة، كما في اللاتي سبقتها، الى اؤلئك «الضِباع» الذين هم في الواقع وزراء الصف الاول الذين يطلب الحراك الشعبي اخراجهم من الحكومة، ويلاقيه الحريري بالقول انه لا يقبل بحكومة فيها هؤلاء. يُقصد بهم جبران باسيل وعلي حسن خليل ووائل بوفاعور واكرم شهيب وآخرين مماثلين مروا في حكومات سابقة.
3 - مع ان حزب الله يعتقد بأن الحريري هو الأول سنّياً، وان من الظلم الظن بأن منافسيه المحتملين في الطائفة يوازونه تأثيراً في الشارع السنّي، كما امام المجتمع الدولي - وبين هؤلاء مَن يحوط نفسه بهالة وهمية يُصدّقها بالفعل - ويعلم الحزب ايضاً ان الحريري لم يعد الاول سعودياً من دون ان يكون اي من الآخرين خَلَفَه في هذا الامتياز، الا ان الرجل يظل بالنسبة اليه حاجة في المعادلة الداخلية ومع الخارج. اضف رغبته في تفادي إحياء حساسية سنّية - شيعية ليس الآن اوانها، ولا التلاعب باحجام الزعامة السنّية. مع ذلك رفض حزب الله بصوت عال إقران الحريري عودته الى السرايا بشرط تأليف حكومة تكنوقراط خالصة، لا وزير سياسياً فيها.
يتناقض هنا موقفا الطرفين: مواصفات تكنوقراط الرئيس المستقيل تختلف عن تلك التي يتحدث عنها حزب الله بموافقته على حكومة تكنو - سياسية. وزراؤه التكنوقراط هم جزء لا يتجزأ من موقعه وخياراته الاستراتيجية والوطنية وثقافته السياسية. لذا يرى الحزب من جهة ان التكليف شيء والتأليف شيء آخر، ومن جهة اخرى ان ترؤس الحريري حكومة لا يعني ان تكون حكومته هو وفق المواصفات التي يطرحها.