كانت الثورة منتظرة من أجل البيئة أولاً. كانت كل المؤشرات تدل على أن الحياة في لبنان باتت مهددة، وليس نوعيتها فقط. كان تلوث الهواء القاتل يتطلب ثورة، إلا أن المحرك جاء من الهواء الافتراضي، أو من المتنفس الوحيد (الافتراضي) للناس، التواصل عبر المحمول. ربما لهذا السبب يميّز بعض علماء الاجتماع بين الهواء والجو وما يسمى «الفضاء العام». لنقل إن الفضاء العام كان مهيئاً فعلاً، إلى درجة أن ما حدث بداية لم يكن ليصدق.في الواقع هناك أسباب ودوافع ومحركات كثيرة للاعتراض، أو، على الأصح، لكل فرد أو جماعة أو مجموعة محركاتها ودوافعها، إلا أن المشترك بينها عدم الرضى ووصول قضايا كثيرة الى حالة الاختناق (السياسي والاقتصادي والاجتماعي والمادي والبيئي والمروري…).
بغض النظر عن التفسيرات التي تدخل الأسباب الخارجية في ما يحدث، أو عن محاولة أكثر من طرف استغلال ما يحصل والاستثمار في الحراك… كثير من العوامل أدت بالطبع الى انفجار المجتمع، بينها عوامل حاسمة مثل القضايا الاجتماعية - الاقتصادية وقضايا البيئة. وأكدت الأحداث الأخيرة، بشكل مباشر وغير مباشر، أنه لا يمكن الفصل بين القضايا بالسطحية التي طالما تعاملت السلطات معها، إذ أمعنت، هي وأعوانها القابضون على الثروات، في تسليع كل شيء وفي الاستثمار في أي شيء، حتى في الأزمات ومشاكل الناس ومآسيهم وحاجاتهم، وصرف النفوذ واستغلال السلطة لعقد الصفقات وإنشاء المزيد من الاستثمارات غير المجدية وغير الضرورية، بهدف وحيد، هو زيادة الأرباح ومراكمة الثروات.
وقد باتت الاتجاهات مفضوحة كفاية لكي يلاحظ الجميع أن السياسات التي اتبعتها السلطات المتعاقبة ليست في مصلحة الطبيعة، ولا الناس في الحد الأدنى.
فإذا سلمنا بأن القضايا البيئية الأساسية غير منفصلة عن تلك السيادية والاقتصادية - الاجتماعية، بات من الملحّ، الآن، في خضم الحراك أو الانتفاضة الشعبية المحقة، الاتفاق على توصيف الوضع أولاً، ومراجعة السياسات، والتفكير في اقتراح البدائل… وتحويل الحراك الى ثورة حقيقية، بعد تنقيته من الشوائب والتدخلات والاستغلالات السياسية والاستثمارية، ووضع إعلان مبادئ أو شرعة أو ورقة مطالب وخارطة طريق للتغيير، لا سيما حول القضايا الحياتية والبيئة.
في الحراك، الآن، أكثر من مجموعة مهتمة بقضايا البيئة. ويمكن حصر التمثيل بين مجموعتين تمثيليتين مهتمتين لأسباب وأهداف مختلفة. الأولى وصولية تتغذّى من مستثمرين، أو ربما من بعض السلطات، وهي سطحية، لكنها نشيطة كنشاط لصوص الليل. وثانية عميقة وجدّية، لكن حركتها وحراكها بطيئان كحركة اليائسين، فضلاً عن فئة ثالثة خارج الساحات، لا همّ لها سوى متابعة إدارة مشاريع مموّلة شبيهة بعمل القطاع الخاص.
كان من المفترض إصدار شرعة وخارطة طريق مشتركة يوافق عليها كل البيئيين في لبنان ممن استبقوا الحراك لمحاولة تأسيس تحالف وطني مدني بيئي، وإنتاج رؤية بيئية عامة تحدّد الأهداف والمواقف من المواضيع الحساسة، وتأخذ موقفاً حاسماً من كل القضايا البيئية المطروحة، وفي طليعتها قضايا التنقيب عن النفط والغاز، مع التحفظ على أن تدير سلطة متهمة بالفساد هذا الملف الحساس، إضافة إلى رفض الاستدانة من جديد، ولا سيما لمشاريع «سيدر» المصنفة بيئية، ومنها إنشاء مزيد من السدود السطحية غير الضرورية، وإنشاء محارق للنفايات هي كناية عن صفقات خطرة، ومتابعة التوسع في البنية التحتية بدل إعادة النظر في سياسات النقل، فضلاً عن وضع اليد على ملف المقالع والكسارات والمرامل وشركات الترابة وإعادة النظر في كل السياسات المتبعة في هذا القطاع منذ زمن بعيد، وفتح باب الاستيراد للرمل والترابة، وحصر الاستثمار في المقالع والبحص في أملاك مصرف لبنان والأملاك العمومية لكي تصبح الخزينة هي الرابح الأكبر من هذه الاستثمارات بدل أن تذهب إلى جيوب القوى المسيطرة، مع تأكيد ضرورة مقاضاة من استثمروا ودمّروا الطبيعة وإلزامهم بتصليح التشوّهات واسترداد الأموال المنهوبة في هذا القطاع.
إلا أن الانقسام حصل في طرق مقاربة ملف شركات الاسمنت. ففي حين تشدّد البعض في ضرورة وقف الاحتكار، انحازت قلة إلى مطالب اعتبرها الآخرون مشبوهة، تطالب باستخدام قسم من النفايات كوقود بديل لأفران هذه الشركات!
فهل تنجح مقترحات التحالف البيئي، التي كانت تستعد لتغيير ثوري في إدارة الموارد والنفايات والمياه والطاقة والنقل، في تحويل الثورة إلى بيئية أيضاً، عن طريق التفاوض والمشاركة الفعالة في الحراك؟
أهمية هذا التوجه هي أن المعارضة التي يمثلها هذا التحالف الآن تعارض أخطر المشاريع التي يمكن أن تغيّر وجه لبنان التاريخي، وبإمكانها أن تحوّله من بلد يتغنّى ببيئته وطبيعته (وهذا رأس ماله الأساسي)، إلى بلد نفطي ريعي تحكمه شركات كبرى، أكبر من دولته، تتسبب في استغلال ثرواته الرئيسية واستنزافها وترك الفتات والتلوث وخراب النظم الايكولوجية للبنانيين. وقد زادت المخاوف مع هذا الحراك، مع انتشار أخبار عن أن السلطة الحالية فوّتت على لبنان عروضاً من كبريات الشركات الملتزمة (مثل توتال) لتعويمه مادياً، عبر تلزيم كل البلوكات التسعة دفعة واحدة بدل البلوكين التجريبيين. وهذا ما يدل على أن هناك من يسعى لاستغلال هذا الحراك للضغط على السلطات والمافيات الممسكة بهذا الملف للإسراع في التلزيم والاستثمار والاستفادة القصوى في أسرع وقت، بغض النظر عن النظريات التي تتحفظ على التنقيب والاستخراج، أو تلك التي تعتبر أنه ليس من العدل أن يتم الإسراع في استثمار سريع للكميات الموجودة لهذا الجيل الفاسد من اللبنانيين وحرمان الأجيال القادمة منه واستغلال الظروف السيئة لناحية ضعف الحكم والاقتصاد الوطني لمنح شركات كبرى امتيازات استثنائية للاستخراج بأبخس الأثمان على المستويات كافة.
من هنا تأتي أهمية تدخل هذا التحالف البيئي في الحراك وتغيير مساره وشعاراته وتحفظاته، نحو المطالبة بوقف كل عمليات التفاوض والبدء بالتنقيب والاستكشاف، إلى حين انبثاق سلطة جديدة تغيّر قواعد اللعبة، بعد أن تعيد النظر في استراتيجية الطاقة والقطاعات كافة.
وهذا التغيير يفترض أن يشمل أيضاً وقف مشاريع تسهم أيضاً في تغيير معالم لبنان، وهي أكثر خطورة من نهب المال العام والخصخصة وبيع الأصول، كالاستدانة مجدداً لإنشاء المزيد من السدود السطحية المخرّبة للنظم الايكولوجية، أو لإنشاء محارق للنفايات غير ضرورية ومكلفة وخطرة، من شأنها أن تغيّر وجه لبنان البيئي والصحي أيضاً.
في القضايا البيئية، قيل دائماً: «أن تأتي متأخراً، كأنك لم تأت أبداً». أما الآن فيمكن القول: الثورة البيئية الآن، أو لن تكون أبداً.