هي ثورة؟ لا. اليوم هذه تُقال بالفحوى، تسامحاً، وإلا لو كانت كذلك لما أمكن لسمير جعجع أن يجد مكاناً فيها. لهذا الرجل مستوى مِن الوقاحة تجعله يتحدّث عن ثورة. أتراه، وهو الذي قرأ كثيراً في سجنه، لم يقرأ تاريخ الثورات؟ ألم يسمع عن المحاكم الثوريّة؟ لو كان صادقاً لما أحبّ أن يصف ما يجري بالثورة. لو كانت كذلك فهذا يعني أنّ مكانه الطبيعي اليوم هو تحت المقصلة. أن تُبادر إلى الاستقالة مِن الحكومة، قبيل غرق مركبها، بعدما كنت شريكاً أساسيّاً في الحكم، وشريكاً أصيلاً في قرارات الجلسة التي فجّرت غضب الشارع... فأنت أخطر مِن أيّ أحد آخر في السُلطة. تدسّ نفسك بين الغاضبين، تنزل معهم في الخندق، سرّاً وعلانيّة، فأنت أخبث مَن في الساحات. لئيم. ترقص فوق جراح المتعبين مِن الناس. تشوّش عليهم، تُحرّض الآخرين ضدّهم، تسلبهم أملهم، تشوّه وجههم، كأنّك «فيروس» مُمرض يغزو خلايا جنين أوشك أن يولد. أن تُبادر إلى الاستقالة، هرباً، لا بأس، لكن عندها عليك أن تلازم الصمت، تشعر بالخوف، أن تتنظر لحظة المحاسبة، هذا هو السياق الطبيعي للثورات. يتدثّر جعجع اليوم بالنظام اللبناني، الذي يسمح لضدّ المنطق أن يكون منطقيّاً، لضدّ طبيعة الأشياء أن يصير طبيعيّاً... هو النظام اللعين الذي سمح ويسمح لأمثال جعجع بالنجاة. على المنتفضين اليوم أن يتذكّروا هذا لاحقاً. أن يحفظوا ما فعله ويفعله على هذا النحو. دعونا مِن الماضي، مِن كلّ إرث الحرب الأهليّة، مِن كلّ الخلافات التي قضينا عقوداً ولم نصل معها إلى حل، لكن بمجرّد أن تكون في الحكم، وبأيّ نسبة كنت، فأنت مسؤول... ولا بُدّ أن تُحاسب. على خطاب الشارع أن يقوى أكثر ليقول لجعجع، بكلّ وضوح، اخرج مِنها فإنّك رجيم.مَن الذي ضرب ذاك الشاب، في ساحة ساسين في الأشرفيّة، بعدما صعد إلى عمود وأنزل علم «القوات» ليستبدله بالعلم اللبناني؟ لن ننسى ذلك المشهد. حصل قبل أيّام. لقد جرى تصويره ورأيناه. سيكون ضمن أرشيفنا غداً. وحدها الطائفيّة تجعل جعجع يفعل ما يفعل اليوم. ليس مِن فراغ أن ذلك الصوت الآخذ بالتصاعد، في الشارع، هو ضدّ الطائفيّة. ليس شاملاً، صحيح، ولكنّه مزاج يتّسع. ربّما لن تكون بلادنا بلا طائفيّة يوماً، ولكن، وهذا الأكيد، أنّ ثمة أشياء جديدة تحصل. لو كان هذا الرجل صادقاً، غير خبيث، لما زجّ بنفسه بين مَن يهتفون لإسقاط النظام، الصيغة، البنية التاريخيّة لبلادنا، لأن ذلك لو حصل فإنّه هو أول مَن سيُحال إلى عدم. نهايته وأمثاله هي بنهاية هذا النظام المسخ. الرجل ليس أبلهاً، هو يعرف ذلك، وهذا دليل إضافي على مدى لؤمه. تبلغ جسارته في الوقاحة اليوم أن يُشارك المطالبين برأيّه، كأنّه صاحب رأي، حول نوعيّة الحكومة التي يجب أن تولد. يقول إنّه لا يُريدها سياسية، يُريدها كذا وكذا، ولكن مَن أنت يا خبث محض حتى تتكلّم باسم الشارع؟ مَن في الشارع أنفسهم هم أصلاً في طور تجميع أنفسهم وترتيب خطابهم، والمواقف بينهم مختلفة، ثم أتيت أنت لتتكلم، يا سُلطة مستقيلة، يا هارب، يا لُكَع!
أمّا جنبلاط، فهو جنبلاط، وكفى. هذا كبيرهم الذي علّمهم «السحر». علاء أبو فخر يكتب له مغرّداً، ولنوابه، أنّ دماء كمال جنبلاط ستلعنهم، ثم يُقتَل علاء، ثم يُصبح شهيداً لجنبلاط! يستثمر في تشييعه. مَن يُقدم على ذلك إلا مَن يملك «دكتوراه» في الخبث؟ كدنا، نحن الذين في الشوارع منذ اليوم الأول، أن نرى جنبلاط بنفسه بيننا في الساحات! ليته جاء. في لحظة، راح أيضاً يتكلّم عن ثورة ويبالغ في مدحها. هذا لم يستقل، هذا أقيل، هذا سقط بسقوط الحكومة، ومع ذلك يُريد ركوب الموجة. يصعب إيجاد كلمات تصف بارون الفساد الأعظم، في هذه الأيّام، إذ يُريد التحوّل لثائر ضدّ الفساد. هذا الذي لطالما لعب على وتر الخوف العميق لما يُسمّى «جماعته». لو نزل إلى ساحات بيروت، لقرأ اسمه مكتوباً بمختلف ألفاظ السخرية والقدح والذم والتحقير. هذا «لاهط» صندوق المهجّرين، وصناديق أخرى، على مدى عقود من الزمن، يتصور أنّه يسهل طلسمة ذهن كلّ الناس. لعبه في مسألة قطع الطرقات، لحساباته الشخصيّة، لن ينساه الناس. بالأحرى، عليهم ألا ينسوا ذلك. كان شرّاً على المتظاهرين. لو كان لدينا ثورة، أو ربّما لو تطوّر الأمر يوماً إلى ثورة، فليس على جنبلاط إلا أن يتوقع أن مقصلة (حجم عائلي) تتوق إليه.
يُحاول جعجع ركوب موجة الشارع فيبدو مثل فيروس يغزو خلايا جنين أوشك أن يولد


وسعد الحريري! هذا المضحكة الذي كاد بعض السذّج أن يشفقوا عليه لأنه استقال. حتّى سعد أراد أن يلعبها. اجتماع النقيضين، الساقط عقلاً، يبقى أسهل على العقل مِن اجتماع الحريريّة مع مكافحة الفساد. هي طينة واحدة. هذا، يعني سعد، راح يُحرّك شارعه التائه، على أنّه ضمن الثورة، سعياً لعودته هو إلى رئاسة الحكومة بشروطه. يُريد أن يتدثّر بالشارع. وجع شارعه، إنّ كان لا بدّ للهاء مِن مكان، حقيقي وصادق، كسائر الناس في بلادنا، ولكن أن يلعبها سعد بتلك الطريقة، فهذا ما يجب ألا تنساه ذاكرتنا. كان خائناً لكل الشوارع. عموماً، لو تطوّرت الأمور أكثر، فليس على الحريري إلا أن يقلق، ولا بأس بأن ينبهه أحد لضرورة نقل ممتلكاته الثمينة مِن وادي أبو جميل إلى مكان آخر، على غرار ما فعل جنبلاط إذ نقل بعض كنوزه مِن كليمنصو إلى المختارة. عموماً، لماذا لا ينزل كلّ هؤلاء «الثوار» إلى الساحات؟ مثلاً، ساحات وسط بيروت تناديهم اليوم، حيث قلب الانتفاضة ومكان انفجارها الأول، تناديهم كضيوف وكزملاء ثورة. ستُقدّم لهم الكثير مِن الهدايا والفول والعرانيس. سيعبّر الناس عن مدى حبّهم العميق تجاههم. الساحة تنتظر. إن كانت الساحات لم تحتمل وجود «اللعّيبة» بولا يعقوبيان، التي لم تكن تُحب أن تكون نائبة قال، هل يظنون أنّها ستحتملهم، وهم روح السُلطة وقلبها وعنوانها؟ يسري هذا على جوقة الإعلاميين وما يُسمى بالمثقفين والنخب، الذي ينشطون على مواقع التواصل الإلكتروني، وليس في بالهم إلا تصفية حساباتهم السياسية القديمة. تلك الحسابات التي عجزوا عن تصفيتها خلال المراحل الماضية، والآن، عندما خرج الناس وجعاً، قرّروا أيضاً ركوب الموجة والرقص على الأوجاع. هؤلاء أيضاً يجب ألا تنسى الساحات أفعالهم هذه الأيام. يجب ألا ننسى تصريحاتهم. ألا يغيب عن بالنا تشويشهم وتشتيتهم وخبثهم. هؤلاء، إن كان لا بدّ مِن وصف لهم، فأعداء الثورة... وأعداء الثورات المنتصرة يُخبرنا التاريخ كيف كانت نهاياتهم. حبّذا لو يكون لدينا ثورة منتصرة!