صار لـ«البلد» صوت. وهو ليس الصوت الذي عاد إليها بعودة أهلها من الفقراء ومتوسطي الدخل. أمس كان الصوت، مغايراً. شبان وشابات، صغار وكبار، كلهم ضربوا على الألواح الحديدية التي تحيط بمبنى الأوبرا والموقع المهجور في رياض الصلح. وكلهم تبادلوا الأدوار، فنجحوا لساعات في إسماع صوت «البلد» عالياً، وإلى ما بعد ساحة النجمة ومبنى البرلمان.ذلك الصوت كان إيذاناً بأن التحدي كان جدياً، وبأن المتظاهرين قرروا، بصفتهم مِن أصحاب الوكالة، أن لا يعقدوا جلسة تشريعية لا تهتم لأوجاعهم ولا لمطالبهم. وهؤلاء حققوا مرادهم، بصوت سياسي مرتفع.
منذ ساعات الصباح الأولى، تحضّر المتظاهرون لساعة الصفر. قبلهم، كانت القوى الأمنية والعسكرية قد تحضّرت بدورها لتأمين المداخل المؤدية إلى ساحة النجمة. أمام مبنى النهار، لناحية بلدية بيروت، زرعت الأسلاك الشائكة. وعند السابعة صباحاً، سعت مجموعة من الشبان إلى إزالتها، مستخدمة قفازات خاصة وحبال. كانت عندها الحشود محدودة، فتمكن منهم رجال الأمن، الذي انهالوا عليهم ضرباً. مع ذلك ظلت الأمور تحت السيطرة. المشهد تكرر عند المدخل الشمالي لساحة النجمة، إلى جانب «بلوم بنك». هناك وقفت مجموعة من النساء درعاً بشرياً بين المتظاهرين الغاضبين، الذي يرددون «31 يوماً سلمية، وما عملوا شي» وبين مكافحة الشغب. لكن النساء أصررن على موقفهن، ونجحن في مسعاهنّ. النيران تصاعدت من أكثر من مكان، مذكرة بأول أيام الانتفاضة.
عند العاشرة كانت كل المداخل المؤدية إلى ساحة النجمة مغلقة أمام النواب. في الساحة نفسها حيث الموظفون والأمنيون جاهزون لانعقاد الجلسة، كان النقاش مختلفاً. هناك، تردد: المتظاهرون وقوى الأمن حاصروا مجلس النواب. ولذلك الكلام دلالات واضحة. ثمة لوم كبير لقوى الأمن والجيش، اللذين «ساهما في منع انعقاد الجلسة». خلفية هذا اللوم، ما تردد عن تعهّد قدم لرئيس المجلس من قبل الجيش ووزارة الداخلية بأن يتم تمكين النواب من الوصول إلى المجلس بالرغم من الدعوات الشعبية لإغلاق كل منافذه. وقد عبّر الوزير علي حسن خليل عن ذلك بوضوح، عندما أعلن، تعليقاً على اتهام «مصدر أمني لموكبه بإطلاق النار ودهس عدد من المتظاهرين»، أنه أبلغ وزيرة الداخلية ريا الحسن «أن أي مصدر أمني من واجبه فتح الطرق للنواب وعدم اتهام الناس من دون دليل».
في أكثر من مناسبة، ظهر لحرس مجلس النواب أن «المصدر الأمني» ومن خلفه، لم يعطوا الاوامر لا لفتح الطرقات ولا لمواجهة «مثيري الشغب» الذين حاولوا اختراق الإجراءات الأمنية باتجاه ساحة النجمة. هم أنفسهم الذين طُلب تدخلهم من قبل مجلس النواب، ولم يلبوا النداء، بحجة «غياب الأوامر»، كان قرارهم واضحاً بصد المتظاهرين الذين حاولوا إزالة الأسلاك الشائكة من أمام السرايا الحكومية.
في ساحة النجمة اتهامات لقوى الأمن بمحاصرة المجلس


ذلك بدا انعكاساً لصراعات أهل السلطة وحساباتها. لكن في الشارع، كان المشهد مختلفاً نهاراً. القرار الشعبي كان أكثر إصراراً بإغلاق منافذ المجلس. القلة القليلة من النواب الذين حاولوا الوصول إلى «عملهم»، لم يجدوا غير الفرار بمواكبهم خياراً بعدما «ضُبطوا» من قبل الحشود الغاضبة. في الأساس، لم يقم معظم النواب بأي جهد لحضور الجلسة. حتى نواب كتلة التنمية والتحرير لم يحضر منهم سوى خليل ومحمد نصر الله. آخرون وفّروا على أنفسهم الوقوع بالتجربة، ففضّلوا البقاء في منازلهم، خاصة بعدما أدركوا أن الجلسة لن تعقد. وحده علي عمّار كانت صوره على الدراجة النارية تملأ الفضاء الالكتروني.
كان بري قد أيقن منذ عشية الجلسة أن ثمة من قرّر الانقلاب على تعهده بالمشاركة في الجلستين (جلسة انتخاب اللجان النيابية والجلسة التشريعية). في هيئة مكتب المجلس، كل الكتل الكبيرة ممثلة. وهي جميعها توافقت على جدول الأعمال، الذي بدا أقل من طموحات الناس، وأخطر من أن يمر. وليد جنبلاط كان أول من أعلن عدم المشاركة في الجلسة. كذلك فعل نواب القوات والكتائب والنائبان أسامة سعد وبولا يعقوبيان. تيار المستقبل كان أكثر المترددين. أعلن بداية المشاركة في الجلستين، ثم أعلن المشاركة في جلسة الانتخاب حصراً، قبل أن يقرر صباحاً مقاطعة الجلستين معاً!
نظرياً، مع كل تلك المقاطعة، التي انضمت إليها كتلة الرئيس نجيب ميقاتي، ظل النصاب مؤمّناً، لكن عملياً لم يتخطّ عدد الحاضرين، بعد ربع ساعة من موعد الجلسة، الأربعة. حتى ابراهيم كنعان الذي قيل إنه من بين الحاضرين، عاد وأعلن أنه لم يحضر إلى المجلس.
تلك سابقة في تاريخ المجلس. لم يسبق أن فُقد النصاب لأن عدد الحاضرين ثلاثة فقط. ظل النصاب بحاجة إلى 62 نائباً. وهذه السابقة مهما حاول البعض ربطها بالانقسام السياسي، فإنه لن يتمكن من تحييد العامل الشعبي الذي كان حاسماً أمس في قلب الموازين.
هنالك من يتحدث عن خطأ تكتيكي ارتكبه بري. بعد أن أجلّ الجلسة أسبوعاً، لما رافقها من إشكالات تتعلق تحديداً بجدول أعمال الجلسة التشريعية، كان يُفترض به أن يحصر الدعوة بالجلسة الانتخابية، بما يفتح الباب أمام البدء بدرس الموازنة. أما الجلسة التشريعية، فأسباب عديدة كانت تحول دون عقدها، أبرزها:
- حالة الرفض الشعبي.
- ثمة من يشهر سيف عدم دستورية انعقاد جلسة تشريعية في ظل حكومة تصريف أعمال، بالرغم من السوابق العديدة التي خرقت هذا المبدأ.
- عدم جواز انعقاد أي جلسة تشريعية قبل إقرار الموازنة. فالعقد الثاني لمجلس النواب يبدأ یوم الثلاثاء الذي یلي الخامس عشر من شهر تشرین الأول وتخصص جلساته للبحث في الموازنة والتصویت علیها قبل كل عمل آخر. ولكن بالرغم من أن المادة 32 من الدستور، لم تُحترم منذ العام 1928، أو على الأقل لطالما تم تجاوز مضمونها، بحجة عدم تعطيل السلطة التشريعية، خاصة في ظل التأخر الدائم و«الطبيعي» في إقرار الموازنات، فإن ذلك لا يلغي حقيقة أن الدستور يخرق باستمرار.
بالنتيجة طارت الجلستان، وتقرر الركون إلى تدبير يعود إلى زمن الحرب الأهلية: «إن هيئة مكتب مجلس النواب، بناء على أحكام النظام الداخلي، وبما ان الظروف الاستثنائية الحاضرة، ولا سيما الامنية منها، حالت دون انعقاد المجلس لاتمام عملية انتخاب اللجان، وبناء على سوابق اعتمدها المجلس النيابي، واستشارة قانونية من الدكتور إدمون رباط، الذي قضى باعتبار اللجان النيابية قائمة بجميع أعضائها، وفقا لقاعدة استمرارية المؤسسات حتى يتم انتخابها، تقرر:
1- اعتبار اللجان النيابية الحالية قائمة بجميع أعضائها الحاليين.
2- إبلاغ رؤساء ومقرري اللجان وأعضائها مضمون هذا القرار.
وأرجئت الجلسة الى موعد يحدد لاحقا».
هذا التدبير الذي سبق أن تم اللجوء إليه في العامين 1976 و1989 فقط، أي في السنتين اللتين شهدتا أعنف المعارك الداخلية، تمت الاستعانة به في اليوم الذي قرر الناس النزول إلى الشارع لمنع عقد الجلسة. وبعيداً عن جواز المقارنة بين الظروف الاستثنائية أيام الحرب وبينها هذه الأيام، فإن التدبير الذي اتخذ سيؤدي عملياً إلى فتح الباب أمام لجنة المال للبدء بدرس مشروع موازنة 2020. وقد أشار الرئيس نبيه بري في هذا السياق، إلى أن «أمراً مهماً قد حصل، لجهة اعتبار اللجان النيابية قائمة، وبالتالي صار في الإمكان أن تبدأ اللجنة النيابية للمال والموازنة مهامها في دراسة في دراسة مشروع موازنة 2020». وفي هذا الإطار، جرى تواصل بين بري ورئيس اللجنة النائب ابراهيم كنعان يتعلق بموعد البدء بجلسات اللجنة.
بإرجاء الجلسة «إلى موعد يحدد لاحقاً»، أدرك الناس أن الصوت الاعتراضي صباحاً، أتى أُكله ظهراً. وبعيداً عما يحكى عن دور الأجهزة الأمنية والكتل السياسية في المساهمة في تأجيل الجلسة، إلا أن من تجمعوا منذ الصباح عند مداخل ساحة النجمة، أدركوا أن قرارهم بعدم انعقاد البرلمان أمس قد نُفّذ. وذلك كان كفيلاً لتعم الاحتفالات أرجاء «البلد».