ما الذي تقوم به «الدولة» في لبنان؟ تتفرّج على المستشفيات الخاصة وهي «تذلّ» المواطنين كي يحصلوا على حقّهم في الطبابة، ولا يستفزّها ذلك لتستثمر في تحسين المستشفيات الحكومية وتطويرها. تترك شركات التأمين تجني الملايين من جيوب الناس، ولا تضع لهم نظام رعاية اجتماعية، ولا تُصلح الضمان الاجتماعي. تُصدر مئات التراخيص لـ«دكاكين» جامعية، وتُشاهد اعتراض الطلاب على الغلاء السنوي لأقساط الجامعات، وكيف أنّ إدارات المدارس الخاصة تأخذ التلاميذ «رهائن» لديها حتى يدفع أهلهم، من دون أن تُطلق خطة تطوير الجامعة والمدرسة الرسمية والمناهج التعليمية. تقف عاجزة أمام «مافيا» أصحاب المولدات الكهربائية الخاصة، تُكلّف شركات خاصة إدارة معامل الكهرباء، وجباية الفواتير، تُمدّد امتيازات الكهرباء، وتُصرّ على خيارات بديلة كالبواخر، ولا تُحارب لفرض خطة الكهرباء. لا تهتم بإعادة بناء مصافي تكرير النفط، وتستسلم أمام شركات استيراد المشتقات النفطية الخاصة. تُخصخص خدمة البريد لشركة ترفض، طوال 20 سنة، أن تجري المقاصة مع الدولة. وعلى الرغم من أنّ الدولة تملك القدرة والكفاءة لإدارة شركتي الاتصالات، إلا أنّها عهدت بهما إلى شركتين من القطاع الخاص، سيتم التمديد لهما، رغم «الاشتباه بهما» بملفات هدر وفساد. معظم الخدمات المرتبطة بقطاع الاتصالات مُخصخصة، كما هي الحال في إنشاءات البنى التحتية، والنقل العام، وجمع النفايات الصلبة… كما غالبية القطاعات الحيوية للمواطنين، والتي تمسّ أسمى حاجاتهم. استسلام كلّي أمام القطاع الخاص، المُصمّم كي لا يُقيم أي اعتبار لأوضاع المواطنين الاجتماعية والاقتصادية، ولمصالح الدولة، بل لمُراكمة أرباحه. الخصخصة، بأشكالها المتنوعة، قائمة أصلاً، بفساد وسوء إدارة واحتكارات واضحة. لذلك، أليس الأجدى قبل مناداة البعض ببيع أصول الدولة، أن تكون هذه الدولة حاضرة أولاً؟الخصخصة نغمة قديمة، تتجدّد في زمن الأزمات الاقتصادية، كـ«وصفة حلّ». في لبنان، «أتباعها» كُثرٌ، وهم أقوياء جدّاً ومُتغلغلون في أعماق الدولة. ما تمرّ به البلاد حالياً، مثّل لهم نافذة يُمرروا عبرها مُخططهم، «مستقوين» بصندوق النقد الدولي، الذي تُعدّ الخصخصة بنداً أساسياً على جدول أعمال «خطته الإنقاذية» للبلد. آخر المحاولات، هي مسوّدة «خطة طوارئ» يُقدّمها مؤسس «InfoPro» (شركة للنشر والأبحاث، وناشرة المجلة الشهريةLebanon» Opportunities») رمزي الحافظ. خطة لا تهتم بأوضاع اللبنانيين ومصلحة الدولة الاقتصادية، بقدر ما تسعى إلى الحفاظ على مكتسبات الشركات الخاصة، وتعزيز سطوة القطاع الخاص على العام. تنطق بلغة صندوق النقد الدولي، وتطلب تفعيل مقررات مؤتمر «باريس 4»، المعروف بـ«سيدر»، وخطة «ماكينزي». لا يخفي واضعو الخطة هدفهم، فقد كُتب فيها أنّ «الخطط لزيادة الإنفاق العام، والقضاء على الدين العام، وتخفيض الضرائب، ليست واقعية». في بريطانيا، «أمّ الليبرالية»، اتفق حزبا المحافظين والعمال، على ضرورة إيقاف التقشف في الـ 2020 وزيادة الاستثمار العام. ولكن، يبدو أنّ القطاع الخاص في لبنان، الذي عادة ما «تُدغدغه» تجارب الغرب الليبرالي، لا يختار منها سوى ما يثبت فشله.
يُطلق على خطة رجال الأعمال تسمية «خطة نهوض»، وقد وُضعت بعد استطلاع أُجري مع أعضاء «نادي القادة» (ممول من جمعية المصارف، أطلقته شهريةLebanon» Opportunities»، ويضمّ العديد من المصارف والشركات الخاصة) حول التحديات التي يواجهها الاقتصاد والعلاج المُقترح، ومقابلات مع ممثلي القطاع الخاص، ومساهمين في معظم قطاعات الأعمال، ومسحاً لـ 300 شركة، حول تأثير الأزمة الحالية على العمالة والمبيع. ليتبين أنّ «الأولوية يجب أن تكون للنمو الاقتصادي على حساب السياستين المالية والنقدية والعدالة الاجتماعية».
يكتب رمزي الحافظ في مقدمة مسودة خطته أنّها «ستتم مناقشتها خلال ورشة عمل. هي خطة طوارئ لثلاث سنوات… الهدف هو إعادة هندسة اقتصادنا… وإعادة كسب ثقة السكان، والمستثمرين، والمنظمات الدولية». تنطلق من فكرة أنّ التعثّر الاقتصادي سببه الأساسي النظام السياسي، ووجود حزب الله، «أكبر الخاسرين من الانتفاضة الشعبية الأخيرة».
الأمر الأساسي الذي تطرحه المسودة هو «الخصخصة في أقرب وقت ممكن. ويُمكن أن يكون للناس أسهم في الكيانات». المؤسسات التي يجب أن تُخصخص، بحسب الخطة، هي: الكهرباء، الاتصالات، المياه، النفايات الصلبة، طيران الشرق الأوسط، المدارس والمستشفيات العامة (BOT، عقود الإدارة)، المرافئ والمطار… «سيتم نقل 60 ألف موظف من القطاع العام إلى الخاص». يُرمى الموظفون في «فم القرش»، فيما تتضمن الخطة على المدى المتوسط «إيجاد إجراء يُتيح للشركات تخفيض الرواتب من دون أن تُعاقب. الإجراء الحالي، عبر وزارة العمل، طويل ومُعقد». ومن سيتكفّل بالضمان الاجتماعي للمواطنين؟ بالتأكيد، لا تطرح الخطة إصلاح مؤسسة الضمان الوطني، «التي ستتحول إلى شركة إعادة تأمين»، بل تتولّى شركات التأمين الخاصة تقديم حُزم تأمين للناس، «على أن تُنشئ وحدة لخدمة الفئات التي لا تستطيع تأمين أقساط التأمين». للأمانة، لا تذكر الخطة دفع ثمن الهواء الذي يتنفسه اللبناني، لشركات تؤمّن هذه الخدمة.
تتحدث الورقة عن «وقف إنتاج الكهرباء حتى سريان الخطة المُعدّة أو خصخصة القطاع، على أن تؤمن الطاقة من خلال استجرارها من تركيا أو الاعتماد كلياً على أصحاب المولدات الخاصة. ويجب زيادة التعرفة على الكهرباء ودعمها فقط للفقراء»، من دون أن يتمّ توضيح المعايير التي على أساسها سيُحدَّد «الفقراء». هؤلاء، يجب «إنشاء صندوق لدعمهم، يُموّل من الوفر الذي سيُحقق في الكهرباء، والمنح والقروض منخفضة الفائدة من الصناديق العربية والدولية». إنّها سياسة التسوّل اللبنانية، التي لا تكتفي بالفقراء، بل يريد مُعدّو الخطة أن تشمل أيضاً اللاجئين السوريين، وطلب التمويل الدولي الإضافي لهم.
من الحلول المطروحة أيضاً:
ــــ مكافحة التهريب عبر المرفأ والحدود مع سوريا
ــــ إلغاء ديون الدولة التي يحملها البنك المركزي
ــــ إعادة جدولة الدين بالعملة الأجنبية، وانخفاض أسعار الفوائد
ــــ إعادة هيكلة مؤقتة للنظام الضريبي، عبر إلغاء الضرائب المباشرة (باستثناء تلك المفروضة على المصارف والشركات الكبرى)، والاستعاضة عنها بزيادة الضريبة غير المباشرة، «في مأزقنا الحالي، يجب أن يكون الهدف زيادة الإيرادات. ففي نظام فاسد، لا يُعدّ النظام الضريبي العادل واقعياً. يُمكن تعديل النظام الضريبي بعد إعادة تنظيم الدولة وتقليص حجمها».
المسودة مُؤلفة من 64 صفحة، فيها إشارة إلى ضرورة «إعادة سعر الصرف في الأسواق الرديفة إلى سعره الرسمي، جذب الودائع بالدولار من الحكومات الصديقة والمؤسسات الدولية، وقصّ الواردات غير الضرورية لفترة 18 شهراً». ويرى واضعو المسودة أنّه لتحفيز الاقتصاد يجب «تحقيق شروط القطاع الخاص، وخفض الفوائد على القروض، وإعادة هيكلة قروض القطاع الخاص». أما بالنسبة إلى القطاع المصرفي، فيجب أن يخضع «لإعادة رسملة، وإعادة هيكلة، خفض الفوائد، وإقفال عدد من الفروع بسبب انتشار الخدمات المصرفية الإلكترونية، وبالتالي إنهاء خدمات عدد من الموظفين».
يعتقد واضعو الخطة أنّه «في نظام فاسد، لا يُعدّ النظام الضريبي العادل واقعياً»


تُقدّم الخطة ثلاثة سيناريوات «لتحطيم النموذج الاقتصادي الحالي»: الاكتفاء برفع الحواجز، إدارة تقليدية للأزمة، وتصفير كلّي (Total Reset). الحماسة واضحة للسنياريو الأخير، الذي سيشمل «الإعلان عن خطة نهوض تُشبه ما قد يُقدمه صندوق النقد الدولي»، يتم فيها التخلي عن «الدفاع عن العملة المحلية، التخلي عن مؤسسات الدولة، الاستفادة من أصول الذهب والعقارات الرسمية، مكافحة التهريب والفساد، ووجود قضاء مستقل». وستكون نتيجتها النهائية «عودة سعر صرف الليرة مقابل الدولار إلى سعره الرسمي، مع توسيع نطاق تداوله من 1514 ليرة إلى 1750 ليرة. استعادة المصارف نشاطها وجدولة القروض المتعثرة. ارتفاع الفوائد على الإقراض وانخفاضها على الودائع. وتنتهي سنة 2020، بعجز 2٪ في الناتج المحلي الإجمالي».
لم يكن اقتصاد لبنان يوماً إلا «حرّاً» وليبرالياً، ولو «بتصرّف»، على الطريقة اللبنانية. سيطر الرأسماليون، بتحالفهم مع السياسيين، على مقدرات الدولة، فارضين النُظم والقوانين التي تُناسبهم. إزاء هذا الواقع، يفرض المنطق أنّ الحالة التي وصلنا إليها ليست إلا نتيجة لهذه السياسات، ما يوجب ضرورة محاسبة المسؤولين عنها، وتغييرها. فكيف يُمكن للذين تسببوا بها، أن يتحلوا بهذا القدر من «الشجاعة»، ويُقدموا أنفسهم دواءً لدائهم، ويطلبوا من الشعب التصديق أنّ القطاع العام هو عدوّه؟
«وجود حزب الله خسّرنا»
يكاد «الإصلاح السياسي» يوازي الخصخصة أهمية، في «خطة النهوض» التي وضعها «نادي القادة». يُفرَد في الخطة جزء مهم للحديث عن كيف «وضعنا وجود حزب الله، المنظمة المسلحة وغير الشرعية، بخلاف مع الدول الصديقة، وأدّى إلى خسارتنا دعم الخليج والغرب على مستوى: الاستثمارات، السياحة، القروض». وتزعم مسودة الخطة أنّ «كل الأحزاب، ومن ضمنهم حزب الله، يعترفون كيف أنّ البلد مُستهدف بسببه (الحزب)». وقد أحجم «أصدقاء لبنان عن مساعدة البلد، لاعتبارهم أنّها ستكون مساعدة مُباشرة لحزب الله». وأتت الانتفاضة الشعبية، «ليكون حزب الله أكبر الخاسرين فيها»، مع اعتراف الخطة بأنّ أعداء المقاومة «قد يستغلون ما يحصل في الشارع لتنفيذ أجندتهم».
كلام واضعي الخطة عن حزب الله لا يُقارن بخطورة الشقّ الاقتصادي ــــ السياسي الثاني في المسودة، المُتعلق باللاجئين السوريين. يطلب رجال الأعمال التوقف عن المطالبة بإعادة اللاجئين إلى بلادهم، لأنّ ذلك مرتبط بالحل السياسي في سوريا، وأن تُركّز الحكومة على «طلب استضافة المزيد من اللاجئين في مناطق مُخصصة لهم، مقابل حصولها على مساعدات سخية. يجب تحديد هدف سنوي بقيمة 1.5 مليار دولار، توظف في القطاعات الإنتاجية، ما يؤدي إلى إضافة 2.5 مليار دولار، على الأقل، إلى إجمالي الناتج المحلي (4.5 بالمئة)».