لا بد أن يكون البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي قرأ يوماً ما في الإنجيل، الآية التي تتحدث عن دخول المسيح الى الهيكل وصنعه سوطاً من حبال وطرده الباعة وقلبه طاولات الصيارفة. فعل المسيح هذا من الأفعال «التي ليست من قيمنا وعاداتنا وشيمنا اللبنانية»، كما ورد أمس على لسان سيد بكركي التي انضمت أمس الى بعبدا واللقلوق وعين التينة وجوقة الشخصيات والقوى السياسية التي توحدت ضد أفعال المتظاهرين. وبدل أن تفتح بكركي وكنائس وسط بيروت أبوابها لتستقبل المحتجين والمصابين وتستمع الى مطالبهم، حرص الراعي غداة ليل دام، في عظة بدت للوهلة الاولى دفاعاً عن المتظاهرين، الى وضع الكنيسة المارونية في خندق واحد مع العهد وأركانه وقوى 8 و14 آذار، والرهبانيات المؤيدة للعهد والمصارف التي تتحالف مع كثر منها، مطالباً بحكومة له فيها أصدقاء من الخط نفسه. هو الخندق الذي يتظاهر ضده الشابات والشبان منذ 17 تشرين الاول.فيما كان متظاهرو بيروت يتعرضون للضرب والرصاص المطاطي ويُسحلون ويسجنون، كانت باريس تشهد حفلة غنائية أمام دار الأوبرا كوسيلة احتجاج على أنظمة التقاعد. لكن هذا المشهد بمثابة تتمة لمشاهد الاحتجاج العنفية المستمرة في كل مدن فرنسا تحت عناوين اجتماعية مختلفة، في نقاش مفتوح حول الاصلاحات، يستعيد أيضاً مشاهد باريس عام 1968. لكن في لبنان لا تناقش الطبقة السياسية الاصلاحات، ولا سرقة المصارف لأموال المودعين، بل إنها في مقابل الاصرار على استنساخ الحكومات المتعاقبة، تحصر النقاش في وضع أطر للتظاهرات، بعدما انكسرت المحرمات المزمنة بعدم الرضوخ للسلطة. فمنذ ثلاثة أشهر والقوى السياسية تريد أن تحدد للمتظاهرين سلوكيات انتفاضاتهم و«إيتيكيت» تظاهراتهم، إذ بدأ الحديث أولاً عن الأعداد والهويات المشاركة في التظاهرات، عن سلمية التحركات والرقص والغناء وعن الاناشيد والفنانين، وعن الخيم المنصوبة، والادوار الخارجية، والانتماءات الحزبية والطائفية، وتحديد الهويات المذهبية للمشاركين. وانتقل كلام مراجع رسمية وحزبية الى تحديد خريطة التظاهرات، وأي طرق يفترض إقفالها وأي طرق يفترض فتحها. مع استقالة الرئيس سعد الحريري اتخذت القوى السياسية منحى آخر في سعيها الى تحديد برنامج عمل التظاهرات لإعادة الحريري الى السراي الحكومي وإسقاط كل مرشح غيره. ومع بدء التحرك ضد المصارف، تفرع عنوان جديد، تمثّل بمنع المس بحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وبالمصارف والدخول الاعتراضي اليها، وعدم استهداف النواب والشخصيات السياسية أثناء وجودهم في الاماكن العامة. وأخيراً تحولت الحملة على المتظاهرين، بعد حوادث الحمرا وبيروت، الى ديكتاتورية من نوع آخر، وانضمت الى هذه القوى السياسية طبقة إعلاميين ـــ محازبين استفادوا من الشاشات ومن وسائل التواصل الاجتماعي لتوجيه حملة واسعة "لتعليم" المتظاهرين مبادئ بناء الاوطان وعدم تخريب المنشآت العامة وسلوك طرق حضارية في التظاهر وتحميلهم مسؤولية الانهيار المالي والمصرفي.
مفارقة ما حصل في الايام الاخيرة من اعتداءات جسدية من القوى الامنية على المتظاهرين من الحمرا الى وسط بيروت، لا تنفصل عن الاعتداءات اللفظية من جانب أركان السلطة السياسية. لا يلتبس على هؤلاء لماذا ينزل مئات اللبنانيين الى الشارع، ولماذا يقتحمون المصارف ويكسرونها، ولماذا تتحول التظاهرات «عنفية» بعدما فشلت التحركات السلمية في تحقيق المطالب، لذا فإن العنف والاعتداءات والتجاهل المتعمد لمطالب المئات، تعكس مزيداً من المكابرة والاعتداد بالنفس وعدم القدرة على السيطرة على الوضع الداخلي. من أجل ذلك تذهب القوى السياسية والامنية الى ابتداع اساليب جديدة للتخفيف من وهج التظاهرات، على الاقل امام الرأي العام الدولي، لكن ذلك أعطى مفعولاً عكسياً، ظهر من خلال عودة التظاهرات عنواناً بارزاً في وسائل الاعلام الدولية والعربية:
في اليومين الماضيين برز الاصرار، وبتغطية اعلامية - سياسية ومالية، على تعميم أن العنف، لا سيما تجاه المصارف، سببه قوى موالية للثنائية الشيعية، ولحزب الله تحديداً. بلغ هذا الاصرار حد القول إن بعض الموقوفين ليس لديهم حسابات مصرفية، لتأكيد عدم حقّهم في التظاهر. رغم ان متظاهرين ومؤيدين للتظاهرات كرروا دعمهم لما يحصل ولمحاسبة سياسة مصرف لبنان، ورغم شمولية التحركات لتضم كل الطوائف من دون استثناء، لمواجهة حاكم مصرف لبنان والمصارف والسلطة المالية عموماً، إلا أن رد العهد وقوى مسيحية وتيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي، ركّز على ضرورة حماية المصارف وعدم التعرض لها، وتحميل حزب الله وحده مسؤولية ما يحصل، لأن هذا العنوان جذاب دولياً وعربياً، ومن شأنه أن يخفف قوة التظاهرات وتأثيراتها الفعلية، ويصرف النظر عنها لصالح التركيز على موقع حزب الله في المعادلة السياسية والمالية وسط العقوبات المفروضة عليه أميركياً، ويحمي المصارف، والأهم مصالح المدافعين عنها وأموالهم.
لا تناقش الطبقة السياسية الاصلاحات وسرقة المصارف أموال المودعين وتحصر النقاش في وضع أطر للتظاهرات


في المقابل استنفرت احداث بيروت التي تتحمل مسؤوليتها القوى الامنية وحدها، رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري، الذي لم تهزّه الاعتداءات على المواطنين في صور والنبطية وجل الديب وجونيه وفرن الشباك، أو تظاهرات طرابلس، فقطع طرق البقاع وطريق الجنوب والاستنفار المذهبي في واد وسقوط ألواح زجاجية في وسط بيروت في واد آخر. يصرّ الحريري الذي أراد أن يتحول أيقونة الثورة باستقالته، على حصر مرجعية وسط بيروت به وبمشروع سوليدير الذي قام به الرئيس الراحل رفيق الحريري على قاعدة تهجير عشرات العائلات اللبنانية من أحياء وسط المدينة من دون وجه حق، وسلبهم أموالهم وممتلكاتهم. سوليدير وحدها (كما كانت الحال يوم حرب تموز 2006) تشكل استفزازاً للحريري العائد من رحلة استجمام في باريس، الى السراي كما كان يفترض، ويحمّل بذلك حزب الله مسؤولية ما جرى، مستعيداً لغة مذهبية كان يأمل من خلالها دفع الحزب الى التخلي عن حسان دياب والعودة الى تفاهم حكومي ثنائي مجدداً. هذه الاستفاقة الحريرية كانت فاقعة، بقدر ما هو فاقع تماهي التيار الوطني الحر مع كل منتقدي تصرفات المتظاهرين الذين "يهدمون البلد»، وصولاً الى حد الدفاع عن الاجهزة الامنية وأدائها. وهي أحد تجليات الايام الاخيرة، حين يتقاطع التيار الوطني وتيار المستقبل في تقزيم دور المتظاهرين وتحميلهم مسؤولية الازمة، وكأنهما ليسا "شريكي النُّص» في الانهيار الحالي.