في لبنان والمنطقة والعالم، الاسئلة متزاحمة حول ما يتوقع ان يشهده لبنان في المرحلة المقبلة. كيف ستعمل الحكومة وكيف ستعمل الدولة وكيف سيتصرف الناس؟ وهل العالم القريب او البعيد يهتم بنا، ام اننا متروكون لمصيرنا؟في لبنان واقع سياسي واقتصادي وامني واجتماعي وثقافي متصل بالصراع على الهوية. والصراع على الهوية اليوم لا يتعلق بخلفية طائفية او مذهبية او مناطقية. والاخطر، ان الصراع على الهوية في لبنان ليس صراعاً طبقياً. الصراع الحقيقي، ينحصر في معركة المحاور المتواجهة في المنطقة، بين تيارين، واحد منضو في محور المقاومة واخر في محور اميركا - السعودية - اسرائيل. اما الجزء الاخر من الناس فهم أقلية، وليسوا كما يدّعون، ولا يمثلون في اي انتخابات حقيقية اكثر من خمسة في المئة. وهذا الحساب يعني الآتي:
المجموعات الشعبية الناشطة خلف شعارات مطلبية تستهدف قلب النظام لناحية تغيير جذري في سياساته وتركيبته وشخوصه، هي مجموعات صغيرة، ليست واسعة الانتشار، ولا واسعة النفوذ والتأثير. والامر لا يتصل حصراً بالميديا وما تقرر في عملية صناعة النجوم، بل في كون الناس ليست منجذبة الى الافكار الراديكالية فعليا. الجمهور يرفع سقف المطالب، ليقبل بالقليل. وهذا ديدن اللبنانيين مع الاسف. وهذه المجموعات، تعتقد ان بمقدورها معارضة المشروع الاميركي - السعودي - الاسرائيلي للمنطقة، وهي تختلف مع القوى المنضوية في محور المقاومة، حول صعوبة خوض معركة على الجانبين. وهي حجة قوى المقاومة التي لا تريد ان يجرها احد الى معركة لا تخدم معركتها الاساسية. وبمعنى ادق، فان قوى المقاومة لا يمكن ان تكون مع القهر والفساد، لكنها لا تتصرف على ان مواجهة هذه الامور باتت اولوية تفرض نفسها على اي بند اخر. والنتيجة تكون: لا نمانع قيام دولة طبيعية عادلة، لكننا لن نصرف كل جهدنا وطاقتنا هنا، لاننا نعتقد بأن هزيمة المشروع الاميركي - السعودي - الاسرائيلي تمثل الاولوية، وان كل تراجع لحضور اميركا وهيمنتها سينعكس تراجعا في الازمات الداخلية للبنان وبقية دول المنطقة.
عمليا، سيكون لبنان امام موجة جديدة من التشاطر. كل الفريق الذي يقول انه يواجه الفساد، يخشى اعلان موقف رافض ومقاوم للضغوط الاميركية. هو ايضا، مثل المقاومة، لا يريد ان يخسر جهدا خارج ما يعتبره الاولوية في اسقاط الحكومات. ولكي يكون المرء منصفا: إذا كانت هذه المجموعات تعمل فعليا لاجل مستقبل افضل للبنان، واذا كانت فعليا تعتبر المشروع الاميركي - السعودي - الاسرائيلي معاديا، فهي تعتمد نفس منطق قوى المقاومة. اي انها تعتبر ان تصفية النظام العميل للغرب في لبنان، سيساعد على هزيمة المشروع الاميركي في المنطقة. ولذلك، لا يعتقد اصحاب هذه الوجهة انهم يقبلون الاستراتيجية المعاكسة المعتمدة من جانب قوى المقاومة.
وهذه المجموعات ليست كبيرة في كل الاحوال. اساسها الحزب الشيوعي الذي اصدر، قبل أيام، برنامجه السياسي والاقتصادي للمرحلة الانتقالية في مواجهة الأزمة القائمة في البلاد، ليس فيه من صلة بالافكار التي يفترض ان يحملها الحزب نفسه (لنا عودة مفصلة الى ادبيات وسلوكيات الحزب الشيوعي وكوادره). وفيها ايضا مجموعة من الناشطين العلمانيين الذين لم يستقطبهم اطار تنظيمي موحد. وربما هم لا يرغبون بذلك. لكن هؤلاء تراهم مبعثرين هنا وهناك، ويفترضون لانفسهم دورا كبيرا. لكن الحال ليست على هذا النحو، لان طبيعة الانقسام في لبنان لا تقوم وفق الطبقات الاجتماعية ومنظومة المصالح الاقتصادية. بل ان الانقسام في حدوده القصوى، يتصل بحسابات «الجماعات» اللبنانية.
اليوم تشكلت حكومة جديدة. للذين يعرفون والذين لا يعرفون، فقرار تأليف الحكومة هو على شكل تسوية واتفاق غير موقع بين جميع المعنيين بالازمة اللبنانية. لمحور المقاومة حصته ودوره، وللمحور الاميركي - السعودي - الاسرائيلي حصته ودوره ايضا. وهذه الحكومة لن تقدر على قلب الطاولة، لانها قامت على فكرة التسوية. اي انها قامت على اساس ان المعركة في لبنان وحوله مستمرة، ولم يفز بها طرف على اخر. حتى خروج قوى 14 اذار من الحكومة لا يعني خروجها من الدولة والسلطة ودائرة القرار (سيبقى آل الحريري الاكثر نفوذا في السراي الكبير ووزارة الداخلية إلى حين يأتي من يطرد جميع من يعمل في ادارة هاتين المؤسستين من الذين توظفوا بعد العام 1994، ولن يكون بمقدور حسان دياب لا اختيار قائد سرية حرسه الحكومي ولا من يقدم القهوة والشاي في مكتبه، وهو سيرضى بذلك لانه يعرف ان التسوية التي حملته الى موقعه، لا تشتمل على تغيير قواعد اللعبة). وليد جنبلاط موجود ليس في الحكومة وحسب، بل كان حاضرا في عدة جولات من محادثات تأليفها. لم يجرؤ ميشال عون او حزب الله او احد على تجاوزه او اغضابه عند اختيار الوزيرين الدرزيين. وهو حال سعد الحريري نفسه، الذي يهتم الآن بمصير كل انصاره في ادارات الدولة. وهو ايضا حال اميركا والسعودية اللتين تنظران براحة وهدوء وطمأنينة الى ان هذه الحكومة ستهتم بمراضاتهما تحت عنوان «استعادة ثقة المجتمع العربي والدولي». ولن تقلق واشنطن والرياض لأن هذه الحكومة لن تتخذ اي اجراء يشتمّ منه رائحة مراعاة او مراضاة المقاومة في المسائل الخلافية الكبيرة.
حزب الله لن يفعل شيئا على الاطلاق. لن يقوم بأي خطوة. قد يكون الاكثر نأيا بنفسه عن كل شيء


والتسوية تتيح لكل اللاعبين المحليين خوض المزيد من المعارك لحماية انصارهم داخل ادارات الدولة. وستتيح لهم من خلال الحكومة نفسها او من خلال المجلس النيابي او المرجعيات الطائفية والدينية، خوض كل معارك التعطيل او التسهيل لحماية مصالحهم. وليس بين من تعاقب على ادارة الدولة، من هو خائف من اي حساب مقبل.
لكن السؤال هو ماذا سيفعل حزب الله؟
على مسؤوليتي، حزب الله لن يفعل شيئا على الاطلاق. لن يقوم بأي خطوة. قد يكون الاكثر نأيا بنفسه عن كل شيء. لن يقف في وجه المحاسبة ان لم تكن نتيجتها تدمير الهيكل. يعني «ياواش ياواش»، ولن يسمح لكل من في الحكومة ان يهدد مصلحة المقاومة ولو على حساب كل شيء، ولن يكون بمقدوره فرض سياسات مختلفة بشأن ادارة الازمة المالية والاقتصادية، ولن يختلف مع بقية الناس من اجل تحقيق هذا الهدف او ذاك...
واذا كان البعض يعتقد ان هذه السياسة ستريح خصوم الحزب او حتى حلفاءه، فان حقيقة الامر ان هذه السياسة ستتعب البلاد كلها. ليس منطقيا او واقعيا او حتى اخلاقيا تحميل الحزب مسؤولية الخراب المتعاظم، لكن الفكرة تتصل حصراً بمبدأ أن على حزب الله ان يجد وقتاً مستقطعاً، وهو يتنقل بين الملفات الاستراتيجية، لاعداد ورقة تحت عنوان: المسألة الداخلية اللبنانية!