بمشهَدٍ شبيه باستقباله يومَ عودته مُحرّراً من المملكة العربية السعودية، تجمّع مُناصرو رئيس الحكومة السابِق سعد الحريري في وادي أبو جميل. الحضور كانَ لإحياء الذكرى الخامسة عشرة لاغتيال والده الرئيس الأسبق للحكومة رفيق الحريري. مناسبة سرعان ما تحوّلت إلى فرصة للاحتفاء بتحرّر رئيس تيارهم، مرّة أخرى، وعودة «أسيرهم» الى أحضان جمهوره بعدَ ثلاث سنوات من الاحتجاز الطوعي الذي اختاره لنفسه بينَ قبضات الرئيس ميشال عون والوزير السابق جبران باسيل. في الزواريب المُحيطة ببيت الوسط، مروراً بالباحة الخارجية للمنزل، وحتى في داخله، امتلأت المقاعد وازدحمت المساحة بوزراء ونواب وسفراء وشخصيات عامَّة ومُحبّين. جمهور فاقَ بعدده ما استقطبه احتفال تحرير الحريري من براثن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان قبل عامين ونصف عام. جمهور اشتاق إلى خطاب يلعب على مشاعره، بإعلان وقف التسويات والتنازلات، وإعادة تظهير عدوّ يشدّ العصب. حاجة بدأ يلبّيها الحريري بعدَ خروجه من الحكومة، بالتصويب على التيار الوطني الحرّ، واتهامات بالتعطيل بلغَت ذروتها يومَ أمس. بينما كانَ الحريري ينعى التسوية، كانَ المُحتَشدون يستعجِلون دفنها بصيحات الـ «الهيلا هيلا هو»! إلى جانِب «النعوة» التي رافقَت إحياء الذكرى، رسَم الحريري «خريطة طريق» تيار المُستقبل في المرحلة المُقبلة على المستوى السياسي، في الداخِل والخارجِ. الذكرى تمّ إحياؤها تحتَ شعار «السياسات الحريرية ومسلسل التعطيل»، وتخلّلتها أغانٍ من وحي المناسبة، إلى جانب شريط وثائقي لبعض المحطات السياسية منذ أيام الحريري الأب. وأتت بعدَ تطورات بازرة شهدتها البلاد في الأشهر الماضية، خاصّة استقالة الحريري من الحكومة وما رافقها من تداعيات على صعيد علاقته بحلفاء تحولوا إلى خصوم، وحلفاء قدامى يحاولون ترميم العلاقة.
نحو ساعة من الوقت قضاها الحريري في شرح أسباب الطلاق مع عون وفريقه عبرَ مواقِف عالية السقف، تنطوي على مراجعة للأعوام الماضية التي قالَ الحريري بأنه «انطحن فيها وواجه وتعلّم وأخطأ وربِح وانطعن وصبر وتعرَّف على أوادِم وصادقين ورفاق درب وصوليين وانتهازيين». تلا فعل الندامة بعدَما كبّدته التسوية خسائر سياسية وشعبية في الداخل، وخسارة مكانته عربياً وخليجياً. تحدّث الحريري عن باسيل كمن يتحدّث عن «صديق غدّار». لم يحمّله فقط مسؤولية كل التعطيل في البلد وما آلت اليه الأمور في البلاد، بل «عايره» أيضاً «بانقلابه على اتفاق معراب».
في موازاة ذلك، يُمكن الإشارة إلى مسألتين بالغتَي الأهمية في الدليل السياسي للخطاب: الأولى، أن الحريري ركّز على «مغازلة» النائب السابق وليد جنبلاط، الذي مثّله في الذكرى ابنه تيمور. مرّتان كرّر فيهما الحريري الكلام عن جنبلاط، مؤكداً «التحالف المتين معه»، ذاكراً إياه بالاسم، في معرض اتهامه لباسيل بمحاولة إقصاء البيك من الحكومات. علماً أنه وعلى الرغم من إعطاء مثل عن حزب «القوات» لكنه لم يأتِ على تسمية سمير جعجع ولا زوجته النائبة ستريدا طوق التي اعتذرت عن عدم الحضور بداعي المرض. عوضاً عن ذلك، رحّب الحريري بالوزيرة السابقة مي شدياق «مش لأنها من القوات بس، لأنها الشهيدة الحية»، وسطَ حضور باهِت للقوات تمثّل بنواب سابقين ووزراء سابقين أيضاً.
بينما كانَ الحريري ينعى التسوية، كانَ المُحتَشدون يستعجِلون دفنها بصيحات الـ«الهيلا هيلا هو»


والثانية هي أنه بعدَ أن قال كل ما قاله بحق العهد، بجناحه المُتمثّل بباسيل في حضور النائب إيلي الفرزلي، حيّد الرئيس عون «اللي بيعرف إحترامو عندي». ربما لأن الحريري لم ينسَ مساعدة «بي الكل» يومَ اختطفته الرياض فقال: «أنا حافظلو مواقفو». حاوَل فصله قدرَ الإمكان مع الإشارة إلى «تعامله مع رئيسين، واحد في بعبدا وآخر في الظل»، كما حاوَل تحييد حزب الله، فلم يأتِ على ذكره عبر «هيمنة وغلبة السلاح»، بل بكلام عام جداً «لا يُصرَف» في البلاط السعودي، كونه لا يرقى إلى مستوى المواجهة التي تريدها الرياض والغرب في ظل التحولات الكبرى للوقائِع الداخلية كما المتغيّرات الخارجية. وطبعاً، لم ينسَ الحريري انتقاد «المزايدين» الذين لم يكونوا ضمن قائمة المدعوين كالنائب نهاد المشنوق فقال: «يُمكنهم أن يتحدثوا ويطلقوا خطابات لكن الكلام عليهم، والكلفة علينا وعلى دار الفتوى وعلى الطائفة وعلى جمهور تيار المستقبل».
بعدَ ذلك انصرف الحريري للحديث عن برنامِج تيار «المُستقبل»: إعادة هيكلة والتفرّغ للعمل التنظيمي، مُعلناً انعقاد المؤتمر العام للتيار قريباً، وهي خطوة «لا بدّ منها» بعدَ الترهّل الذي أصابه، والشكاوى التي تصِل إلى مسامِع الحريري من دون انقطاع.