يتّفق كثيرون على أنّ هيئة إدارة السير والآليات والمركبات المعروفة باسم «النافعة» واحدة من أكبر أوكار الهدر والفساد في لبنان. قصصٌ كثيرة تُروى عن «تسعيرة»، من تحت الطاولة، لكل خدمة يُقدمها موظف أو سمسار، وعن «رسوم» يتقاضاها هؤلاء لوضع إشارة على دفتر السير تسمح لحامله بقيادة دراجة نارية من دون امتحان، وعن فوضى الحصول على دفاتر قيادة دولية وصكوك بيع سيارات والتلاعب بالتسعيرة الجمركية... هكذا كانت «النافعة»، دائماً وعلى مدى سنوات طوال، منجماً يدرُّ ذهباً على الموظفين والسماسرة وعلى القيّمين عليها.في حزيران الماضي. دهمت قوّة من أمن الدولة مقرّ هيئة إدارة السير وأوقفت السمسار جوزيف ح. بعدما عثرت في حوزته على عشرات من صكوك بيع السيارات بطريقة مخالفة. كما عُثر في هاتفه على رسائل صوتية واتصالات بيّنت أنّه كان يدفع ملايين الليرات إلى سائق رئيسة هيئة إدارة السير هدى سلّوم العسكري المتقاعد جورج ح.، وإلى عدد من الموظفين. مكث السمسار أياماً قبل أن يُخلى سبيله بإشارة المدّعية العامة في جبل لبنان غادة عون، بعدما وافق على تسوية قانونية تُعفي الراشي من العقوبة إذا اعترف بإعطاء الرشوة وبأسماء المرتشين. وبناءً على هذه الاعترافات وعلى التسجيلات الصوتية، طلبت عون ملاحقة عشرة موظفين في الهيئة. إلا أنّ وزيرة الداخلية السابقة ريّا الحسن لم تُعطِ الإذن بملاحقتهم. اختُطف السمسار بعد أيام من خروجه من السجن قبل أن يُطلق بعد نحو شهر إثر دفعه فدية مالية قدرها 200 مليون ليرة. في الأثناء أُحيل الملف إلى فرع المعلومات، قبل أن تطلب عون استرداده، وأشارت على أمن الدولة بالتوسّع في التحقيق. أُعيد استدعاء السمسار والسائق الذي عُثر في هاتفه على تسجيلات صوتية تُبيّن أنّه كان يطلب هدايا من السمسار باسم سلّوم. وأقرّ السمسار بأنّه كان يدفع بين 100 و200 ألف ليرة للموظفين عن كلّ معاملة. بناءً على إفادتَي السائق والسمسار، وليقينها بأنّ وزيرة الداخلية لن تُعطي الإذن بملاحقة رئيسة هيئة إدارة السير، طلبت عون الاستماع إلى إفادة سلّوم بصفة شاهدة، وادّعت عليها بجرم الإثراء غير المشروع (لا يحتاج إلى إذن مسبق من الداخلية)، وأحالتها إلى قاضي التحقيق الأول في بيروت على خلفية اتهامها بقبول هدايا من سمسار عبر سائقها. وقسّمت عون الملف إلى عدة أقسام كي تحول دون إخلاء سبيل سلوم بسبب التدخلات السياسية. بعد توقيف الأخيرة، استُدعي 24 موظفاً ومعقِّب معاملات يعملون في الهيئة (اتضح أن المفاتيح الأساسية بينهم هم السمسار والسائق والموظف المتقاعد من «النافعة» ن. ب.) وفُتح تحقيق موسّع معهم. محاضر التحقيق التي اطّلعت عليها «الأخبار» تبيّن أن السمسار كان «المايسترو» الرئيس في مراكز الهيئة في الدكوانة وجونيه والشمال، بمباركة من سلوم التي طلبت شفهياً من رؤساء هذه المراكز تكليفه بنقل البريد بين المصالح رغم عدم وجود صفة رسمية له. كما بيّنت التحقيقات تقاضي موظفين رشاوى بشكل دوري وحصول مخالفات تسبّبت بهدر المال العام.
وكشفت التحقيقات أنّ الموظف المتقاعد من النافعة ن. ب، (من بلدة زوج سلوم وكان يعمل في مركز الدكوانة وأُحيل على التقاعد في حزيران 2019) نجّح المحامي س. ص. رغم رسوبه في الامتحان العملي للقيادة، إذ أعاد الامتحان له في اليوم نفسه، فيما ينص القانون على الانتظار 15 يوماً قبل إعادة الاختبار. وأفاد المحامي الذي ادّعى في مخفر الدكوانة أنّ الموظف المتقاعد طلب منه 200 دولار لقاء ضمان نجاحه في الاختبار. كما اعترف أحد الموظفين بأنّ ن. ب. كان يساعد الممتحنين أثناء إجراء الامتحان الشفهي على الكمبيوتر، وأنّه كان غالباً ما يتلقى اتصالات عبر الواتسآب من سلّوم أثناء إجراء الاختبارات، الأمر الذي وثّقته كاميرات المراقبة. كما عُثر في هاتفه على تسجيلات صوتية، يطلب في أحدها من موظف في النافعة مدان بتلقي رشى، مبلغ 20 ألف دولار لتأمين البراءة له. وفي تسجيل آخر، يؤكد أنّه دفع 50 دولاراً إلى أحد العاملين في الأرشيف للحصول على ملف جرى التلاعب بمستنداته خلافاً للقانون.
واستمع المحققون إلى إفادة خ. ح. الذي يعمل في القسم نفسه مع الموظف المتقاعد، فأقر بأنّه أعطى السمسار 12 ملفاً مخالفاً عُثر عليها في مكتب الأخير «تسهيلاً لسير العمل وأمور المواطنين... ومن دون مقابل»، فيما أكد السمسار أنّه كان ينقده مبلغ 100 ألف ليرة وطوابع بشكل دوري. كما اعترف موظف آخر بأنّه أعطى السمسار 41 ملفاً بشكل غير قانوني «من دون أي مبالغ مالية أو إكراميات». وفيما عُثر في هاتفه على رسالة نصية تفيد بأنّه تقاضى من السمسار ستة ملايين ونصف مليون ليرة، ادّعى بأن المال يعود إلى شقيقه الذي يعمل معقّب معاملات في زحلة ويتعامل مع السمسار نفسه. كذلك استُمع إلى إفادات عدد من الموظفين كان بعضهم يُسلم السمسار نفسه صكوكاً جديدة، وأكّد الأخير أنهم كانوا يتلقون منه مبالغ مالية دورياً أو ما يُعادلها من الهدايا أو الطوابع.
بحسب التحقيقات، منحت سلّوم صلاحيات استثنائية لسمسار اعترف بأنّه رشا معظم موظفي النافعة


واستجوب عناصر أمن الدولة رئيس قسم تسجيل السيارات والآليات في الشمال فهد الحزوري الذي ذكر أنّه نظّم، بناءً لطلب شفهي من سلّوم، تكليفاً للسمسار باستلام وتسلّم البريد الصادر والوارد إلى القسم من المصلحة في الدكوانة. وتبين أنّ السمسار كان يرسل البريد الوارد الى الحزوري ويتسلم منه البريد الصادر عبر معقّب معاملات كانت قد سُحبت منه رخصته. والأمر نفسه تكرر مع رئيس فرع تسجيل السيارات في جونيه جوزف الهاروني الذي نظّم كتاباً، بناءً لطلب شفهي من سلوم، يطلب فيه السماح للسمسار بتسلّم وتسليم البريد الخاص للفرع.
وأفاد رئيس قسم الميكانيك السياحي وسام غلاييني في التحقيق معه أنّ سلّوم سمحت لخمسة أشخاص مدنيين غير موظفين بتصوير الشاسيه على صك البيع، مخالفة بذلك التعليمات، علماً أنّه مدوّن على الصك بأنّه نموذج رسمي يحظّر استعماله لغير الموظفين. وذكر غلاييني أنّه بعد كشف هيئة التفتيش المركزي على هيئة إدارة السير، مُنِع هؤلاء من الاستمرار، لكنهم عادوا بتغطية من سلوم. وقد تبين أنّ غلاييني أعطى إفادات متناقضة، علماً أنّ السمسار ذكر في إفادته أنّه كان ينقده مئة دولار كل بضعة أيام.
كما بيّنت التحقيقات أنّ موظفاً في فرع تسجيل جونيه كان يتسلم شهرياً 2000 صكّ بيع جديد، وهو عدد كبير جداً بالنسبة إلى الفرع، من دون أن يقدم تبريراً لذلك. وقد كُلّف هاتفياً من سلّوم بتصديق وقطع الإيصالات المالية وتوقيع الاستمارة الخاصة باستلام رخص السير، أي أنها كلّفته بكلّ التواقيع باستثناء توقيع الكشف على السيارة. وهذا يعني أنّه متروك لضميره لجهة تصديق المعاملات في حضور البائع والشاري.



«مخطط لفبركة ملف لهدى سلّوم»!
نفَت أوساط رئيسة هيئة إدارة السير هدى سلّوم كل ما نُسِب إليها في التحقيقات الأولية لدى جهاز أمن الدولة، متحدّثة عن «مخطط لفبركة ملف لها» وأنّ الملف فارغ. وتحدثت هذه الأوساط عن وجود تسجيل صوتي مدته 62 دقيقة بين السمسار جوزيف ح. وسلّوم يخلُص إلى أنّ السمسار حاول إنذارها بعد خروجه من التوقيف بوجود نيّة مبيّتة ضدها، مؤكدة أنّ سلوم تعرضت لكمين من قبل مدعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون التي استدرجتها بصفة شاهدة مع تقديم ضمانات بأنّها لن توقفها، ثم نكثت بعهدها وادّعت عليها بجرم الإثراء غير المشروع، رغم أنّها ليست الجهة الصالحة للادعاء بحسب القانون. وإذ أكّدت أوساط سلّوم أنّ السمسار لديه تراخيص من وزير الداخلية لتعقيب المعاملات منذ ما قبل تعيين سلوم في هيئة إدارة السير، نفت ما تردد في إفادات الموقوفين عن أنّها توسطت شخصياً لتسهيل أموره. واستشهدت هذه الأوساط بإفادات الموقوفين أمام قاضي التحقيق في بيروت جورج رزق الذين أكّدوا عدم وجود أي علاقة مباشرة بسلّوم على اعتبار أنّها لم تكن تتواصل معهم مباشرة من دون الحرص على التسلسل الإداري. ووصفت الأوساط الادعاء بأنّه باطل، كاشفة أنّ عناصر أمن الدولة كشفوا على منزل سلوم لفضح إن كان ثمنه لا يتناسب مع راتبها الشهري. وتعليقاً على إفادات السمسار، قالت أوساط سلّوم: «في البدء قال إنه اشترى لها برّادا، ثم تراجع عن إفادته ليقول إنّه اشترى البرّاد وأعطاه لسائقها الذي أعطاها إياه بدوره». وأضافت المصادر أنّ السمسار حدّد بأنّ المكان الذي اشترى منه البرّاد هو «خوري هوم»، لافتة إلى أنّه لم يُعثر على فاتورة باسم سلّوم، إنما فاتورة باسم والدها يعود تاريخها إلى عشر سنوات.