الشعب اللبناني لا يثق بمصارف وطنه. ينتظر بغصة وغضب سحب حفنة قليلة من الدولارات من مصارف كان يراها لأشهر خلت أساس الاقتصاد. يصطف في طابور طويل لسحبها. يفضل إخفاءها في أمكنة آمنة في منزله عوض تركها في المصارف وحصد الفائدة. إقفال المصارف أبوابها خلال الأسبوعين الأولين من بدء الثورة الشعبية في 17 تشرين الاول 2019، والتدابير التي اتخذتها عندما أعادت فتحها، أفقدا ثقة المواطنين بها وخسرت صدقيتهم كاملة. يصدّق المودعون راهناً كل الإشاعات والنظريات التآمرية التي تكتب في وسائل التواصل الاجتماعي عن مصارف وطنهم، منها قصص حقيقية. يصدقون أنهم هرّبوا أموالهم الخاصة وأموال المودعين الكبار إلى الخارج. يصدّقون أنها باعت سندات اليوروبوند السيادية بأسعار منخفضة جداً، مدّعية أنها في حاجة الى سيولة نقدية لسد حاجة المودعين. لكن السيولة بقيت في الخارج، كما يبدو.لكن المواطنين في حاجة الى مصارف يثقون بها، والمصارف في حاجة الى مودعين!
ليس لبنان الأول ولا الأخير بين بلدان العالم يواجه أزمة كهذه. شهدت بلدان كثيرة فقدان الثقة بمصارفها، ونجحت مع الوقت في تصحيح أحوالها بمساعدة دولية. الولايات المتحدة، مثلاً، واجهت في خريف 2008 أزمة ثقة بالمصارف وقطاعات أخرى. طبعاً لم تلجأ واشنطن إلى صندوق النقد الدولي، لكونها مصدر العملة الصعبة. لكنها اعتبرت أن إدارات تلك المصارف هي سبب الازمة. اشترطت الحكومة الاميركية تغيير الإدارات قبل القيام بمساعدة المصارف المتعثرة. كذلك لم تضخ الأموال للإدارات الجديدة كهبة أو دين، بل مقابل أسهم صارت مملوكة من قبل الحكومة، التي عادت وباعتها عندما تحسنت أوضاع تلك المصارف وارتفعت أسعار أسهمها. طبعاً ثمة إجراءات أخرى اتخذت وقتذاك. لكن تجدر الإشارة إلى أن المساهمين الكبار في المصارف، والسياسيين، لا يسيطرون مجتمعين على تلك المؤسسات ومجالس إدارتها، ولا على القيادة السياسية في البلد، كما هي الحال في لبنان والمنطقة.
بالتأكيد لا يمكن مقارنة ما حدث ولا يزال يحدث في لبنان مع المصارف بما شهدته الولايات المتحدة أو أي بلد آخر حتى. أسباب انهيار المصارف تختلف بين الدول، لكن المسبب لأزمات كهذه متشابه بين البلدان. مسبّبو الأزمة النقدية الراهنة في لبنان هم الإدارات الجشعة للمصارف والتي راهنت بأموال المودعين، واشترت سندات الخزينة بسعر فائدة يزيد أضعاف سعرها الدولي، ما شجّع على استمرار الفساد والعجز المتزايد في موازنة الدولة منذ عام 1992.
من هنا، كانت «الهندسات المالية» للبنك المركزي فاشلة، وكلفت لبنان حوالى ستة مليارات دولار. هدفت «الهندسة» في الأساس الى دعم مصرفين متعثرين. لكن البنك المركزي أعلن أن العملية هدفت إلى اجتذاب العملات الصعبة، ما حمل مصارف أخرى على أن تطلب، بدعم سياسي في معظم الأحيان، المعاملة بالمثل. حصد من جراء ذلك كبار المساهمين والداعمين السياسيين أموالاً ضخمة هُرّبت بعد تحويلها إلى الدولار إلى خارج لبنان. ويا للأسف، معظم العملة الصعبة التي ادعى المركزي اجتذابها إلى لبنان عاد إلى خارجه، ومنها عاد الى لبنان دولارات جديدة لتستفيد من عملية الهندسة مجدداً.
المصارف اليوم في حاجة إلى العملة الصعبة، وأساساً الى الدولار، وليس في مقدور المصرف المركزي تزويدها من احتياطياته. بالرغم من أن استرجاع الأموال التي هُرّبت إلى الخارج واجب وطني، إلا أنها لن تحل أزمة السيولة لدى المصارف. كذلك، فإن إقناع المودعين الكبار بالمساهمة في زيادة رأس المال كما يحاولون راهناً، قد يؤجل الانهيار ولن يمنعه في المستقبل. فقط، دعم المجتمع الدولي للبنان يسمح بمعالجة تدريجية للأزمة الأكبر والأخطر التي يواجهها في السنة المئة لتأسيسه. يريد المجتمع الدولي والإقليمي المعني بمساعدة لبنان اقتصادياً منه أن يحاور جدياً صندوق النقد الدولي.
منذ تأسيسه عام 1945، دعم صندوق النقد ما يزيد على مئة دولة واجهت صعوبات اقتصادية. يملك صندوق النقد الدولي 189 دولة. يدير الصندوق مجلس إدارة، أو مجلس تنفيذي، أعضاؤه 24 عضواً يدعى كل منهم «مدير تنفيذي». هناك ثماني دول يتمثل كل منها بمدير تنفيذي هي الولايات المتحدة، اليابان، المانيا، بريطانيا، فرنسا، روسيا، الصين والسعودية. يمثل كل من باقي المديرين الـ16 مجموعة دول، وللدول العربية وإيران مديران تنفيذيان إضافة الى المدير السعودي، بينما للبنان ودول المشرق العربي أعضاء في مجموعة دول يمثلها مندوب مصر، كمدير تنفيذي، تنتمي دول المغرب العربي الى مجموعة يمثلها مندوب إيران. المدير العام للصندوق منذ تأسيسه كان من حاملي جنسية أوروبا الغربية ، بينما ظل رئيس البنك الدولي أميركي الجنسية. ولكن للمرة الأولى تُنتخب مديرة عامة من بلغاريا في أوروبا الشرقية.
من ناحية أخرى، يعمل صندوق النقد حالياً على برامج متنوعة مع 35 دولة بلغت قيمة القروض الخاصة بها نحو 200 مليار دولار. من هذه الدول: العراق، مصر، تونس، الأردن، الأرجنتين، الإكوادور، أوكرانيا، و16 دولة من بلدان جنوب الصحراء الأفريقية. الجدير بالذكر أن الصندوق أبرم مع العراق عام 2016 برنامج دعم حصل بموجبه على خمسة مليارات دولار، مع السماح له باقتراض 15 مليار دولار إضافية خلال ثلاث سنوات من برنامج الدعم، بسعر فائدة سنوي بلغ 1,5 في المئة. بدأ العراق يتلقى مساعدات الصندوق منذ عام 2004، وأبرم الاتفاق الاول معه عام 2010.
بالعودة الى لبنان، لا يمكن فهم المعارضة القوية لطلب المساعدة من صندوق النقد الدولي سوى الخوف من فضائح ارتكبت، لأن الصندوق قد يطلب تدقيقاً في الحسابات المالية والنقدية قبل وصف الدواء لمعالجة الأزمة الاقتصادية الأصعب التي يواجهها لبنان. أيّ اتفاق مع الصندوق يسمح للبنان باستدانة ثلاثة مليارات دولار في العام الاول، وتصل الى تسعة مليارات خلال ثلاثة سنوات، بسعر فائدة سنوية يقارب 1,5 في المئة.
ما هي شروط الصندوق لإعطاء المساعدات؟
التركيز الأساسي للصندوق هو على تحقيق توازن في موازنة الدولة وميزان المدفوعات. العجز الكبير في الموازنة كان مقبولاً ما دام ثمة فائض في ميزان المدفوعات. لكن لأسباب عديدة، بدأ الفائض يتراجع منذ بدء الازمة في سوريا عام 2011، ثم التراجع الهائل في سعر النفط، وأخيراً الهندسات المالية التي أجراها المصرف المركزي. استمر أهل الحكم في الإنفاق رغم إنذارات حاكم المركزي المتكررة. طبعاً، لم تبدأ الأزمة مع العهد الحالي، بل هي تراكم سياسات بدأت في منتصف التسعينيات، لكن لم تحاول حكومات العهد إدارتها بجدية، فانفجرت في وجهها.
لذلك فإن السؤال الاول الذي سيطرحه الصندوق على الحكومة يتعلق بتوازن الموازنة والمدفوعات. كان الصندوق يشير في تقاريره السنوية منذ حوالى عقدين من الزمن عن الوضع المالي والنقدي، الى أزمة محتملة إن لم يبدأ لبنان بإصلاحات جذرية. تقرير عام 2018 انتقد الهندسات المالية والتأخر في بدء الإصلاحات الضرورية. لكن حاكم مصرف لبنان استعمل حقه في عدم نشر التقرير، فكان التعتيم واستمر الجميع كأن الحالة على أحسن ما يرام. كانت اقتراحات الصندوق ونصائحه تركز على وقف الهدر، ولا سيما أن هناك مؤسسات انتهت مبررات وجودها، وبنود نفقات في الموازنة من دون إنتاج يحولها المستفيدون منها الى أنشطة سياسية تخدم مصالحهم الانتخابية. لكن عندما استفاقت الدولة على الحالة الاقتصادية المزرية التي وصل اليها لبنان، لجأت الحكومة الى زيادة الضرائب المباشرة وغير المباشرة حتى استفاق الشعب وكانت الثورة الشعبية.
اما السؤال الثاني الذي سيطرحه صندوق النقد، فهو يتعلق بالتدقيق في الحسابات المالية والنقدية التي يرفض المسؤولون إجراءها. الدولة، ووزارة المال بالأخص، لم تنه قطع حساب منذ حوالى عقدين من الزمن، والبنك المركزي يرفض التدقيق في موازناته المتتالية منذ منتصف التسعينيات.
أخيراً وليس آخراً، فإن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة السبت الماضي قد - وأكرر قد - تؤجل الانهيار، لكنها لن تحل أزمة المصارف وثقة المواطنين بها وبالدولة. الحكومة لم تخبرنا بعد كيفية تأمين حاجات لبنان الى العملة الصعبة. لذلك، فإن لبنان يحتاج الى دعم دولي لن يحصل عليه من دون اتفاق صعب مع صندوق النقد الدولي. تردد أهل الحكم في الإقدام على هذا الخيار ليس له مبرر وطني. لكن ما لا أفهمه هو المعارضة القوية من حزب الله في زمن عقد العراق اتفاقين مع الصندوق من دون معارضة تذكر من كتائب حزب الله، والتيار الصدري، وحزب الدعوة ومتفرعاته. هذا الموقف يستدعي التساؤل: هل ان حزب الله الذي يتهم اليوم بتغطية الفساد هو جزء منه، ولذلك فهو يرفض التدقيق في حسابات الدولة ومؤسساتها، ومن بينها الجمارك والإعفاءات التي حان الوقت لأن تتوقف؟

* سفير لبنان السابق في واشنطن