محاولات دفع لبنان إلى أحضان صندوق النقد الدولي جارية. بدأ الأمر بالتخويف من التوقف عن السداد، ثم ظهرت أصوات تشير إلى أن القرار سيؤدي إلى «مجاعة». لاحقاً، بدأت تتسرب مواقف أوروبية تتحدث عن خيار وحيد، لكن اللافت أنه برزت أمس مجموعة مواقف تشي بأن صندوق النقد الدولي استعاد اهتمامه فجأة بلبنان عبر المتحدّث باسم صندوق النقد الدولي جيري رايس، وأن الناطقين بلسان حاكم مصرف لبنان والمصارف ردّدوا مواقف مشابهة كما تبيّن من تصريحات وزير المال غازي وزني، سبقتها تقارير تقنية مثل «ستاندر أند بورز» لعبت دورها التهويلي أيضاً.إذاً، حملة التهويل تتصاعد. المتحدّث باسم صندوق النقد الدولي كان أبرز المهوّلين أمس. قال لـ «رويترز» إن الوضع في لبنان خطر جداً، لذا «من المهم أن تصمم الحكومة حزمة إصلاحات شاملة وأن تطبقّها على النحو الملائم من أجل المعالجة الفعلية للتحديات الاقتصادية وتحسين الآفاق الاقتصادية للبنان». وأوضح أن صندوق النقد ينتظر تسليم السلطات اللبنانية خطّتها بشأن مواجهة التحديات الاقتصادية.
هكذا يلوّح الصندوق بقدرته على «الفيتو» في مواجهة الخطّة اللبنانية إذا لم تتطابق مع الإصلاحات التي سيطلبها أو طلبها في تقاريره السابقة. وبهذا المعنى تصبح الضغوط الأوروبية مفهومة في محاولتها التسويق لضرورة انخراط لبنان في برنامج مع صندوق النقد الدولي. تدويل الأزمة اللبنانية هو المسألة التي يدور حولها الجميع. المشكلة أن هناك الكثير من القوى المحلية التي تنخرط في هذا المشروع لأسباب سياسية أو لأنها تتماشى مع مصالحها الخاصة أو لأنها تتلاءم مع طموحات هذه الفئة التي تزعم أنها «نخبة النخبة» في لبنان، مثل منظمة «لايف» المتشكّلة من مجموعة من المديرين التنفيذيين الماليين اللبنانيين الذين يعملون في الخارج. هذه المجموعة أصدرت قبل أيام موقفاً واضحاً تطلب فيه لجوء لبنان إلى صندوق النقد الدولي. هذه الفئة تعتقد أنها هي الأكثر قدرة على التعامل مع عملية إفلاس لبنان بوصفه معبراً لتغيير النظام السياسي والاقتصادي الذي يعيد إنتاج نموذج ليبرالي أقلّ توحشاً وأقلّ عشوائية من النموذج الذي يموت اليوم. لا يعتقد هؤلاء أنه يمكن بناء النموذج الجديد من دون صندوق النقد الدولي بوصفاته الجاهزة. هذه المجموعة هي جزء يتماهى مع الخارج من أجل الوصول إلى السلطة.
المشكلة أن «لايف» ليست وحدها، فهناك من يتماهى معها قصداً أو جهلاً. على سبيل المثال، لم يتمكن وزير المال غازي وزني، المحسوب على حركة أمل التي أعلنت بوضوح موقفها المؤيد للتوقف عن الدفع والرافض للجوء إلى صندوق النقد الدولي، من قول هذا الأمر في أكثر من مناسبة. قبل أيام، عرض وزني على رئيس الحكومة ولجنة الإنقاذ الاستمرار في دفع الديون، ثم عرض عليهم لاحقاً «تأميم المصارف»، قبل أن يعود اليوم إلى نغمة صندوق النقد الدولي، وقال لـ«رويترز» إن الخطّة التي يعدّها لبنان «لمعالجة أزمته المالية والاقتصادية ستلبّي توصيات صندوق النقد الدولي»، لكنه وقع في تناقض سريع في العبارة التي تليها، مشيراً إلى أن «أي لجوء إلى برنامج للصندوق يجب أن يكون محلّ توافق سياسي وألا تتسبب الشروط في أي معاناة».
غوبتا: مواصلة الحكومة تسديد الديون يعني طبع المزيد من العملة


أصحاب المصلحة والكلمة العليا في الكيان اللبناني، أي المصارف، قالوا كلمتهم أيضاً. نطق باسمهم الأمين العام لجمعية المصارف مكرم صادر، الذي يعبّر عن رغباته السياسية والمصرفية: «بدل تقاذف المسؤوليات وليس الوقت وقتها، فلتتعاون كل الأطراف لوضع البلد على سكّة المعالجات، ولنستدع من دون المزيد من المكابرة صندوق النقد الدولي كونه المؤسسة الأكثر خبرة في مجال إعادة الجدولة وإعادة الهيكلة، فيساعدنا على تدعيم ثم إعادة تنظيم الهيكل، فلا ينهار على رؤوس الجميع مهما حسنت نياتهم أو ساءت».
القوى الخارجية التي تعمل بصمت، أو تعبّر عن بعض مكنوناتها، والأطراف المحلية التي تغلّف مواقفها الطبقية ــــ السياسية بعبارات مالية، تحتاج إلى دعم تقني من وكالات التصنيف. التقرير الذي أعدّته الموظفة في وكالة «ستاندر أند بورز»، ذهبية غوبتا، يشكّل ركن هذا الدعم. التقرير يخفّض تصنيف الديون السيادية للبنان بالعملات الأجنبية إلى «الإفلاس الانتقائي». لكن ذلك لا معنى عملياً له، إذ ليس مهماً تصنيف لبنان سواء كان إفلاساً انتقائياً أو إفلاساً أو أي مستوى من درجات «C»، فالأهمّ هو مضمون التقارير. غوبتا تشير إلى أن الحكومة اللبنانية ستنخرط في مفاوضات مع الدائنين خلال الأشهر المقبلة على إعادة ترتيب الديون «هناك احتمال أن تلجأ إلى عملية قصّ لأصل الديون والفوائد أيضاً، وتمديد آجالها. لكنها تشير إلى أن هذه المفاوضات قد تكون معقدة ومحكومة بثلاثة عوامل: (أ) لا يتوقع من البيانات الرسمية اللبنانية أن يكون هناك برنامج مع صندوق النقد الدولي يمكن أن يشكّل تشجيعاً لمانحين أجانب على تقديم الدعم. (ب) هناك مستثمر واحد يحمل أكثر من 25% من استحقاقات عام 2020، ما يعطيه القدرة على منع أي عملية إعادة هيكلة إذا لم يكن راضياً عنها. (ج) المصارف المحلية ومصرف لبنان تحمل أكثر من 60% من استحقاقات الديون بالعملة الأجنبية وقص الديون سيكون له تأثير على النظام المالي المحلّي، بمن فيه المودعون والاقتصاد. سيكون هناك تحدّ اقتصادي في ظل مخاطر سياسية وإقليمية.
وتخلص غوبتا إلى أن مواصلة الحكومة تسديد الديون تعني طبع المزيد من العملة المحلية، ما سينجم عنه ضغوط تضخمية وخفض إضافيّ في قيمة العملة المحلية، مقابل الدولار ويهدّد بإنهاء تثبيت سعر الصرف.
إذاً، كل ما علينا فعله هو اللجوء إلى صندوق النقد الدولي حتى ينفرج الدعم الدولي! سيأتي الدعم الدولي بالقطارة ودفع كل قسط منه مشروط بتجويع الطبقات الفقيرة وبـ«إصلاحات» تطاولها مباشرة مثل فرض ضريبة على استهلاك البنزين، وزيادة ضريبة القيمة المضافة إلى 20%، وتقليص حجم القطاع العام وإعادة هيكلة نظام التقاعد وزيادة المحسومات التقاعدية... أما الهدف السياسي فهو إحكام السيطرة على لبنان.