هذه الأرقام كفيلة بالدعوة إلى إعادة هيكلة القطاع، ليُصبح وجوده مُتناسباً مع الاقتصاد المحلي، فكيف إذا أُضيفت إليها مشاكل القطاع على صعيد السيولة (امتلاك ما يكفي من الأموال لدفع المستحقات) ومستوى الملاءة (قدرة المصارف على الوفاء بالتزاماتها بالنفقات الثابتة)، ما يعني عدم قدرته على مواجهة التحدّيات؟ عندها يُصبح للدعوات بُعدٌ آخر: تخفيض الكلفة التي يتكبّدها المجتمع اللبناني من جرّاء وجود قطاع مُتضخّم ومُتعثّر. يرى خبراء اقتصاديون أنّه يجب دراسة إذا ما كانت الكلفة المترتبة على وجود مصارف «خربانة» أكبر بكثير من كلفة خلق وحدات مصرفية جديدة، ليُصبح هناك «عدد مصارف أقل، 10 مثلاً، مع إدارة مُتحكّمة أكبر». الكفّة تميل لمصلحة عمليات الدمج، وليس وفق القاعدة القديمة بأن يسعى «مصرف كبير» إلى الاستحواذ على الأصغر منه لتكبير حصته في السوق، بل بخلق مصارف جديدة.
وفقاً لأي عملية حسابية، «يُعتبر الجزء الأكبر من المصارف مُفلساً»، ولكن يتمّ «تحاشي» التعبير عن الواقع بصراحة، في محاولة لإنقاذ ما تبقى من القطاع. هذا النقاش حضر في اللقاءات بين الجهات الرسمية اللبنانية وممثلين عن شركة «لازارد» (المستشار المالي للبنان في المفاوضات مع الدائنين)، فجرى الحديث عن ضرورة إعادة رسملة وهيكلة القطاع المصرفي. ويبدو أنّه اتخذ هذه المرّة منحى جدّياً، وقد جرى التعبير عنه أمس أيضاً في بيان وزارة المالية، المُخصّص لإعلان توقّف لبنان عن سداد كلّ مستحقات سندات الدين بالعملات الأجنبية (يوروبوندز). ورد في البيان أنّه سيتم العمل على «استقرار وإصلاح النظام المالي من خلال إعادة هيكلة القطاع المصرفي». التدخّل لإنقاذ المصارف عبر إعادة هيكلتها يعني أنها مُفلسة، وإلا لما كان الأمر في طور البحث. هي دعوة إلى «انتشالها من حالة الإفلاس، بعد أن بدّدت سيولتها وباعت موجوداتها لسدّ التزاماتها، أي إنّ إفلاسها مُضاعف، ولا يوجد أمل بأن تتمكّن في يوم من الأيام من توفير الأموال»، يقول خبير اقتصادي.
يشرح أحد المصرفيين أنّ «دمج المصارف يُساعد على تحقيق هدفين: حماية أموال المودعين، وعدم ضعضعة الثقة أكثر فأكثر بالقطاع، بعدما بات الزبائن يلمسون عدم القدرة على تلبية الحدّ الأدنى من طلباتهم». العملية يجب أن يقوم بها في هذه الحالة الاستثنائية «المصرف المركزي، من خلال دمج بنك أو أكثر، يملك فائضاً من السيولة الإيجابية، مع المصرف الذي لديه سيولة سلبية، بطريقة تُقلّل نسبة الانكشاف والمخاطر». ولكن، يجب على مصرف لبنان «أن يُقدّم حوافز، فلن يقبل مصرف لديه سيولة أن يتحمّل عبء مصرف منهار، من دون مردود. هل هناك إمكانية حالية لذلك؟ وما نوع الحوافز التي ستُقدّم؟».
كلفة وجود مصارف «خربانة» أكبر من كلفة خلق وحدات مصرفية جديدة
إعادة هيكلة المصارف ورسملتها تتمّ باعتماد طرق مختلفة؛ الوزير السابق منصور بطيش يتحدّث عن عملية إنقاذ (Bail in) من خلال تحويل المودعين الكبار إلى مُساهمين في المصارف. أما مصادر مصرفية فتتحدّث عن زيادة الرسملة من خلال إدخال أموال جديدة (Fresh money)، «فمن منظار المصرف المركزي، هناك منظومة تنهار، ولا يُنقذها سوى أمرين: الإبقاء على القيود المصرفية حتى انقضاء الأزمة، وإدخال مال جديد إلى البلد، يُستفاد منه لإعادة الدولار في السوق السوداء إلى مستوى معقول، وإطلاق عجلة الاقتصاد، وترميم جزء من الثقة، ما يُمكن أن يُحفز على النمو». وتتحدث المصادر عن الاستفادة «من اللاعبين الذين كانوا يؤمنون بالنظام الريعي، وباتوا اليوم يبحثون عن الاستثمار في قطاعات إنتاجية خوفاً من أي انتكاسة جديدة». كيف سيجذب «المركزي» ودائع جديدة في ظلّ التحديات الاقتصادية والمالية العالمية؟ تُراهن المصادر المصرفية على «استخدام ما يحصل في الأسواق العالمية لمصلحتنا. ففي وقت تتجه فيه البنوك المصرفية العالمية إلى تصفير الفائدة، يُمكن أن نُبقي نحن عليها في مستويات أعلى من الخارج، ونستقطب الأطراف الخارجيين الذين يبحثون عن الاستثمار في الاقتصادات المحفوفة بالمخاطر. كلّ الفرص متاحة لخلق نمّو داخلي». عودة إذاً إلى اللعبة القديمة القائمة على استغلال الفائدة، لجذب أموال جديدة، توظّف في شراء المزيد من الديون، وقد أدّت طيلة السنوات الماضية إلى تسعير الأزمة، وصولاً إلى انفجارها.