في كلّ عام، ومع اقتراب تمديد مهمّة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (اليونيفيل) في جنوب لبنان، يدور جدلٌ بين الولايات المتحدة و«إسرائيل» من جهة، والدول الأوروبية (تحديداً فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، ألمانيا) من جهة ثانية. الفريق الأول، يضغط لخفض التمويل والعديد وتعديل مهمّة «اليونيفيل» بما يتناسب مع مصالح العدّو. في حين أنّ الجانب الأوروبيّ، الذي يتمثّل بقوات كبيرة في «اليونيفيل»، يهمّه الحفاظ على مهمّة القوّات كما هي والتمديد لها من دون أيّ تعديلات. جلسة التمديد من المفترض أن تُعقد هذه السنة في آب، وقد انطلق اللوبي الصهيوني - الأميركي داخل الولايات المتّحدة في تسويق موقفه. الإشارة العلنية الأولى، ظهرت خلال الاجتماع الدوري لمجلس الأمن لمناقشة تطبيق القرار 1701 (أُقرّ في 2006، وطالب حزب الله بالوقف الفوري لكلّ «هجماته»، وطالب «إسرائيل» بالوقف الفوري لكلّ عملياتها العسكرية وسحب كلّ قواتها من جنوب لبنان) في 4 أيار الحالي. أمّا الإشارة الثانية، فهي مقال نشره «معهد واشنطن» في 5 أيار، كتبه مدير التخطيط الاستراتيجي السابق في جيش العدّو، العميد المتقاعد عساف أوريون. النقطة المشتركة بين الاثنين، هي الوضع الاقتصادي في لبنان. هذه هي «الخاصرة الرخوة» التي ينوي «المجتمع الدولي» الدخول منها، لمحاولة تطويع لبنان، وإجباره على تقديم تنازلات.
تدخّل فرنسي بالشؤون الداخلية
يوم الثلاثاء 4 أيار، عقد مجلس الأمن جلسة مغلقة، بواسطة الفيديو، مُخصّصة لمناقشة أحدث تقرير للأمين العام للأمم المتّحدة، أنطونيو غوتيريش حول تنفيذ القرار 1701، الذي أشار إلى «امتلاك أسلحة خارج نطاق سيطرة الدولة اللبنانية، يُشكّل انتهاكاً مستمرّاً للقرار 1701». خلال الجلسة تحدّث المندوبان الأميركي والإسرائيلي عن إعادة النظر في التفويض الممنوح لـ«اليونيفيل» بغية السماح لها بتنفيذ المهمّات الموكلة إليها. إلّا أنّه وبالتوازي مع هذا النقاش، لفت مندوبي دول آخرين، قفزُ المندوب الفرنسي فوق جدول الأعمال، ومُناقشة آخر التطوّرات الاقتصادية في بيروت، وهو ما عُدّ تدخّلاً بشؤون دولة أخرى من دون علمها.
تهتمّ باريس بأن لا تكون الولايات المتّحدة الأميركية اللاعب الغربي الوحيد في لبنان. وهي تُريد أن يكون تطبيق مقرّرات مؤتمر باريس 4 (المعروف بـ«سيدر»)، «نجاحاً» يُسجّل لإدارتها. ولكن فرنسا ما زالت تتصرّف كما لو أنّها «دولة انتداب». لم تُخطِر لبنان نيتها مناقشة أمور داخلية في مجلس الأمن، ولم تقف على رأيه، بل تعاملت معه كـ«تابعٍ». تقول مصادر متابعة للمداولات في مجلس الأمن لـ«الأخبار» إنّ فرنسا أضافت تعديلاً على البيان الختامي بأنّها «تُحيط أعضاء مجلس الأمن علماً بموافقة الحكومة اللبنانية على خطّة اقتصادية، وقرارها الاستعانة ببرنامج مع صندوق النقد الدولي. وجرى التشديد على الحاجة الملحّة لأن تستجيب السلطات اللبنانية لتطلّعات الشعب اللبناني من خلال تنفيذ التزامات مؤتمر سيدر، وطلبت فرنسا من مجلس الأمن الاستعداد لمساعدة لبنان في الخروج من الأزمة». المُشكلة الكبرى، هي أن لا تجد الدولة اللبنانية نفسها معنيّة بـ«تسجيل موقف» على الأقلّ، بل تضع نفسها في مرتبة أدنى من مُكوّنات ذاك «المجتمع الدولي»، خوفاً من حرمانها «مُساعداته» (اقرأ القروض). في البداية، لم تكن مندوبة لبنان الدائمة لدى الأمم المتحدة، السفيرة آمال مدللي قد أبلغت إدارتها بما يجري، ولكن حتّى بعد أن عرفت وزارة الخارجية والمغتربين بالمداولات المُغلقة، لم تُحرّك ساكناً.
ما فعلته فرنسا، يتوافق مع ما كتبه الضابط الإسرائيلي عساف أوريون: «وصلت الأزمات السياسية والاقتصادية في لبنان إلى ذروتها، وفاقم فيروس كورونا الأمور. كلّ هذه العوامل تجعل اعتماد اللبنانيين على المساعدات الخارجية أقوى من أيّ وقت مضى، ما يمنح الجهات الدولية الفاعلة رافعة قوية للدفع باتّجاه السياسات اللازمة، والتي تُساعد على تجنّب الحرب».

«أزمة لبنان فرصة للتصدّي لانتهاكات حزب الله»
مقال عساف أوريون الذي نشره معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى (معهد بحث أسّسته سنة 1985 لجنة العلاقات الأميركية - الإسرائيلية، مقرّه واشنطن)، يرسم «خارطة طريق» لكيفية توظيف الأزمة الداخلية اللبنانية في سياق زيادة الضغوط على حزب الله، «الوضع خطير ولن يتحسّن، ما يُجبر المجتمع الدولي على إيجاد طرق جديدة لمعالجة انتهاكات حزب الله، والدور الذي تلعبه الحكومة والجيش اللبناني لصالحه... وتوفّر الأزمة الحالية، مُتعدّدة الأبعاد، فرصة فريدة لمعالجة المشكلة».
يذكر أوريون تقرير الأمم المتحدة حول الوضع في الجنوب الذي صدر في آذار الماضي، «وورد فيه كذباً أنّ اليونيفيل واصلت مساعدة الجيش اللبناني في إقامة منطقة بين الخطّ الأزرق ونهر الليطاني خالية من المسلحين والأسلحة». ولكنّه «يُحيّي» الملحق الأول في التقرير «الذي على الأرجح مصدره القيادة العسكرية لليونيفيل»، وسُجّلت فيه عمليات ضدّ دوريات لـ«اليونيفيل»، ما يعني بالنسبة إليه «عدم القيام بأيّ شيء لتحسين الوضع». يقول إنّ حزب الله «يمنع وحدات اليونيفيل من دخول مناطق رئيسية في الجنوب، أو توثيق أنشطتها هناك. والتقرير يُسلّط الضوء على الدور المقلق للجيش اللبناني في إعاقة وصول الأمم المتحدة إلى مناطق تابعة لحزب الله، والأنفاق على الحدود». انطلاقاً من هنا، يطرح أوريون تعديل مهمّات «اليونيفيل»، وبين موعد جلسة 4 أيار التي عُقدت، وجلس التمديد للقوات الدولية في آب المقبل، «يُمكن لإسرائيل والولايات المتّحدة والجهات الفاعلة التركيز على الجهود التي ستُساعد في تحسين الظروف الاستراتيجية في المستقبل... تعديل نوعية العمليات، تقليل عديد القوات، تجهيز الدوريات بكاميرات للتعرف إلى هويات الذين يُهاجمونها، تخفيض في الميزانية، الحصول على بيانات جغرافية لفهم الحقائق في الجنوب بشكل أفضل».
أمّا في لبنان، فيتحدّث الضابط المتقاعد عن زيادة الضغط على بيروت، «في وقت يسعى البلد إلى تلبية حاجته الماسّة من المساعدات الاقتصادية والطبيّة والعسكرية الأجنبية. يجب على المجتمع الدولي أن يُخيّر لبنان بين الحصول على المساعدات أو الاستمرار في تشريع أرضه ومؤسّساته لمنظمة إرهابية. ويجب على الجيش اللبناني أن يتحمّل مسؤوليته كجيش وطني أو التعاون مع الإرهابيين. ويجب على حزب الله أن يختار إمّا الاستمرار في العمليات غير المشروعة على طول الحدود والمضيّ في تطوير مشروع الصواريخ الدقيقة، أو حصول البلد الذي يحكمه على المساعدة الدولية».
قبل عساف أوريون، كان المعهد الأمن القومي الاسرائيلي قد نشر تقريراً عن أنّ المساعدات المالية للبنان يجب أن تكون مشروطة بـ«محاصرة حزب الله». النوايا الغربية معروفة، وما على لبنان سوى تحضير أوراقه جيّداً لمنع واشنطن و«إسرائيل» من تسجيل «انتصار» عليه في موضوع حسّاس. صحيح أنّه نجح السنة الماضية في عدم تعديل مهمّة «اليونيفيل»، ولكن التحدّي أكبر هذا العام مع الأزمة الاقتصادية، وعدم رغبة الحكومة في إيجاد وسائل تمويل داخلية، من دون اللجوء إلى «صناديق التبعية» الخارجية.